ــ تمهيد:
“إنما يفيد لغةَ الأمة وعلومَها وأخبارَها قوةُ دولتها ونشاطُ أهلها، وفراغهم. وأما من تلفت دولتهم، وغلب عليهم عدوهم، واشتغلوا بالخوف والحاجة والذل وخدمة أعدائهم، فمضمونٌ منهم موت الخواطر، وربما كان ذلك سببا لذهاب لغتهم ونسيان أنسابهم وأخبارهم وبُيُور علمهم”، و “إن اللغة يسقط أكثرها بسقوط أهلها ودخول غيرهم عليهم في أماكنهم أو تنقلهم من ديارهم واختلاطهم بغيرهم.”[1]
هذا النص يجرنا للربط الجدلي بين اللغة والعلوم وقوة الدولة وحركية المجتمع، إنه ربط بين السياسة اللغوية والسياسة العامة، وإذا جاز لي ترهين هذا المعطى النصي، فسأعتبر طبقا لما ورد في الندوة الثالثة للمجلس الأعلى للتعليم حول “تدريس اللغات وتعلمها في منظومات التربية والتكوين” أن معالجة المشكل اللغوي “مرتبط بصفة وثيقة بتأسيس وبناء الدولة الحديثة. فليست الدولة الحديثة مجردَ إدارة، وجهاز أمني، واقتصاد، بل هي كذلك لغة وثقافة. يجب إذن إعادة التفكير في مسألة اللغة بارتباط مع سيرورة بناء الدولة الحديثة.”[2]
وإذا قبلنا من باب الافتراض المؤسسي أن المغرب يخطو نحو الحداثة من خلال وجود مؤسسات تضطلع برسم السياسات العامة للبلاد، ووجود هياكل مكلفة بتنزيل التوجهات العامة وتمريرها مجتمعيا، فإن التساؤل عن موقع السياسة اللغوية ضمن السياسة العامة يطرح نفسه لا سيما أن اللغة لم تنحصر تاريخيا بين دفتي الفعل التواصلي فقط، ولكنها عبرت عن ثقافة وحضارة المجتمعات، وشكلت أساسا لهويات قومية حركت التاريخ ورسمت جغرافيات. وإذا سلمنا أيضا أن أي تنمية مشروطة بالمعرفة، ولا سيما في عصرنا الموسوم بعصر المعرفة وسرعتها والتسابق نحو امتلاكها وامتلاك وسائلها، فإن قضية تكوين المعارف باللغة العربية ستفرض نفسها “فمع أن المعارف في حد ذاتها كونية في أغلب الحالات، فإن الحقول الدراسية تُكوَّن ويكون لها وجود عبر اللغة أو اللغات المستعملة في كل مجتمع ما”.[3]
من هنا يجوز لنا أن تساءل:
– أي دور للغة العربية واللغات المقررة دستوريا في تحقيق التنمية المفقودة؟ وأي تنمية يمكن أن تساهم فيها اللغة تصورا وتداولا؟
– هل للمغرب سياسة لغوية؟ وما مقوماتها؟ وهل هناك وعي بها حتى نتمكن من صياغة علاقة بينها وبين التنمية، ولا سيما الفكرية منها؟
– أي مساهمة للمدرسة المغربية في إقرار منظور لغوي مغربي، في أبعاده الثقافية والحضارية؟
هذه الأسئلة وغيرها يفرضها سياق النقاش الفكري العام السائد منذ مدة حول التصور العام للدولة والمجتمع، والاختلاف العميق بين تصور الدولة وتصور المجتمع من خلال مؤسساته المستقلة وفعالياته ونخبه، هذا السياق الذي حاول الحفاظ على نفسه، نسبيا، في دائرة الصراع الفكري والأيديولوجي، وهو الامتياز الذي لازال يعتبر إيجابيا على الأقل لحد الساعة، إذ لم يصل إلى مستوى كبير من تعميق الهوة بين المغاربة سواء بخلفيات إثنية أو عرقية.
ــ في السياسة اللغوية:
يؤكد الأستاذ عبد القادر الفاسي الفهري أن تقوية الديمقراطية في المجتمع ونشرها متوقف على تنفيذ سياسة لغوية ديمقراطية منسجمة… إذ اللغة مبنية في عمق البنية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع، وأهميتها طبيعية جدا. ولهذا تصبح السياسات اللغوية استراتيجيات حكومية مصمَّمة بصفة واعية لتعزيز مصالح طبقات معينة أو فئات اجتماعية.[4]
اعتمادا على هذا الرأي تصبح اللغة شأنا مؤسسيا، ترتبط فيه الحرية بتنفيذ قوانين مسنونة لتنفيذ سياسة عامة في أبعادها اللغوية، وإذا اعتبرنا هذا أمرا منطقيا، فسنكون أمام إشكال تقنين اللغة، وما يترتب عنه من احترام حدود معينة، والانضباط لقواعد مضبوطة، وما يرافق ذلك من سن عقوبات وممنوعات لردع مخالفة القوانين اللغوية؟؟
وانطلاقا من ذلك، أيضا، يُطرح سؤال نمو اللغة، وكيف يمكنها التطور في ظل سياسة محدودة، أو حرية منقوصة؟ إذ ليس صحيحا – كما يؤكد الأستاذ الفهري نفسه – “أن اللغات تنمو بصفة “طبيعية”. إنها تُشكَّل ويُتحكم فيها (أو يُناور بها) في حدود، من أجل أن تلائم مصالح فئات مختلفة من الناس. وهذا الأمر واضح في حالة ما يسمى باللغة المعيارية… وهو النوع المفضل عند الطبقة الحاكمة، بحيث تسود كمعيار عند الحكام بموجب سلطتهم العسكرية-السياسية والاقتصادية والثقافية-الرمزية، لا لأنها طبيعية بأي وجه من الوجوه. ينتج عن هذا أن اللغات، مثل المدن والعائلات، يمكن أن يخطط لها. والتخطيط اللغوي ضروري في كل دولة عصرية، ولا يمكن لأي حكومة أن تشتغل بدونه، ولا بد أن تحدد التشريعات (بتفصيل أحيانا) أين وكيف يتم استعمال لغة ما. فهذه ممارسة أصبحت كونية، وتترتب عنها نتائج كبيرة، في التربية والإعلام على الخصوص، وفي المجالات الأخرى كذلك. ويبدو أن الدول العربية من ضمن الدول التي تقبل عموما بالمبدأ والممارسة،… لكنها تخالف الأمر في التنفيذ، وفي إخراج المنتوج، مما جعل الكثيرين يشككون في أن لها سياسة لغوية”[5]
ــ التخطيط في السياسة اللغوية المغربية:
إذا جاز لي تنزيل المعطيات النظرية السابقة لبحث سبل التفكير المغربي في التخطيط للسياسة اللغوية ـــ إن وُجدتْ وكذا إن حصل الوعي بها ــــ فإن الوثيقة الكبرى والأساسية التي ستضع بوصلة التخطيط اللغوي هي الوثيقة الدستورية، وسأعتبر أن الحراك المغربي المتوج بدستور 2011 صاغ أفقا “جديدا” للوظائف التي يمكن أن تلعبها الدولة من أجل بناء مؤسسات تحظى بالاستشارة غالبا في مواضيع تحتاج إلى تفكير عميق، وبحسن نية سنُقر بأنه مع التفكير يمكن أن يُبنى التطور.
وإذا كان التخطيط مدخلا لعقلنة كل فعل يُراد تنزيله إجرائيا، كيفما كان المجال الذي ينتمي إليه هذا الفعل، فإنه بالضرورة عمل يضبطه التفكير العميق، إذ الفشل في التخطيط يقود حتما إلى التخطيط للفشل.
وبالنظر إلى الوثيقة الدستورية سنجد أنها تعتبر اللغة العربية لغة رسمية للدولة، ومثلها كذلك اللغة الأمازيغية لكنها مشروطة بتنزيل قوانين منظمة، وتعمل الدولة على صيانة اللهجات الوطنية وضمان انسجام الثقافة المغربية ثم الانفتاح على اللغات الحية / الأكثر تداولا في العالم: الفصل 05
“تظل العربية اللغة الرسمية للدولة.
وتعمل الدولة على حمايتها وتطويرها، وتنمية استعمالها.
تعد الأمازيغية أيضا لغة رسمية للدولة، باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء.
يحدد قانون تنظيمي مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، وكيفيات إدماجها في مجال التعليم، وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية، وذلك لكي تتمكن من القيام مستقبلا بوظيفتها، بصفتها لغة رسمية.
تعمل الدولة على صيانة الحسانية، باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الهوية الثقافية المغربية الموحدة، وعلى حماية اللهجات والتعبيرات الثقافية المستعملة في المغرب، وتسهر على انسجام السياسة اللغوية والثقافية الوطنية، وعلى تعلم وإتقان اللغات الأجنبية الأكثر تداولا في العالم؛ باعتبارها وسائل للتواصل، والانخراط والتفاعل مع مجتمع المعرفة، والانفتاح على مختلف الثقافات، وعلى حضارة العصر.
يُحدث مجلس وطني للغات والثقافة المغربية، مهمته، على وجه الخصوص، حماية وتنمية اللغتين العربية والأمازيغية، ومختلف التعبيرات الثقافية المغربية باعتبارها تراثا أصيلا وإبداعا معاصرا، ويضم كل المؤسسات المعنية بهذه المجالات، ويحدد قانون تنظيمي صلاحياته وتركيبته وكيفيات سيره”[6]
نسجل بداية إقرار الدستور بالعلاقة الوثيقة بين السياسة اللغوية والدولة، فهو يجعل اللغة العربية لغة رسمية للدولة، وليس للمجتمع، ولعل وعيه بصعوبة تنزيلها على المستوى المجتمعي جعله يحصر مجال تداولها في الدولة، علما أن الدستور نفسه عندما يتعلق الأمر بقضايا أخرى يُقاسم المسؤولية بين الدولة والمجتمع، ولعل أكبر مثال على ذلك هو التعليم عندما يجعله مسؤولية ملقاة على عاتق الأسرة والدولة، بل تسبق الأسرة الدولة في هذه المسؤولية، وبناء عليه نتساءل ماذا يترتب عن جعل العربية لغة رسمية للدولة وليس للمجتمع؟؟
هــــذا بالضرورة يعني وبشكل بسيط أمرين اثنين:
1 – إن لغة التداول الإداري والمؤسسي هي اللغة العربية؛ فالتراسل والتواصل والتوثيق والمذكرات والنصوص التنظيمية والتشريعية الصادرة من وإلى الإدارة بالضرورة يجب أن تتم باللغة العربية ثم باللغة الأمازيغية بعد تنزيلها.
2 –إن لغة التدريس في المؤسسات التعليمية هي اللغة العربية على الأقل إلى حين تنزيل اللغة الأمازيغية، وهذا يعني أن الأساس في اكتساب المعرفة بشتى أصنافها يتم عبر اللغة العربية؛
إن اعتبار اللغة العربية لغة للتدريس يعني أن التعريب لازال يشكل أفقا استراتيجيا للدولة، ولكنْ، وبالرغم من ذلك فليست هناك أية وثيقة رسمية تضع تصورا للغة العربية باعتبارها لغة للتدريس، أو تضع تخطيطا لذلك بما فيها مادة اللغة العربية نفسها، وهو ما يجرنا إلى التساؤل حول كيفية بناء المعرفة عبر أداة غير مخطط لها ولا لسبيل اكتسابها؟؟
ــ في اكتساب اللغة والمعرفة / اللغة والتنمية الفكرية في المدرسة المغربية:
قد لا نحتاج إلى الخوض في الخلفيات النظرية والفلسفية لعلاقة اللغة بالفكر، وسنكتفي هنا بالتذكير فقط بأن فلاسفة اللغة ذهبوا إلى القول بأن اللغة هي الوعاء الذي تصب فيه الأفكار وأكدوا على وجود وحدة عضوية بين اللغة و الفكر وحججهم في ذلك أن لا وجود لمعنى إلا إذا تميز عن غيره من المعاني، ولا يكون التمايز إلا بعلامة يدركها الإنسان سواء بالتعبير عنها أو بالإشارة إليها، مما يسمح للغة بإدراكها. لقد كشف علم النفس أن تكوين المعاني لدى الأطفال يتم مع اكتسابهم للغة، وفقدان اللغة يلازمه اختلال في المقومات الذهنية، ودلت التجارب أيضا على أن الطفل يتعلم الألفاظ ويرددها قبل أن يعي، أي أنه يردد الكلمات قبل الأفكار.
ومع هذا فإن اللغة تظل أقل من الفكر، مادامت تقف، أحيانا كثيرة، عاجزة عن التعبير عن معان وقضايا وعواطف ومواقف وغيرها…
وعطفا على ما سبق، قد لا نحتاج، أيضا، إلى التدليل على الارتباط الوثيق بين اكتساب اللغة وبناء المعرفة، والعلاقة المتينة بين التمكن من اللغة والتنمية الفكرية، فالنمو اللغوي لا يقل “من وجهة نظر التعلم على الأقل، أهمية عن النمو المعرفي، وذلك بسبب العلاقة الوثيقة بين اللغة والفكر، ولكون اللغة هي العنصر الأساسي المستخدَم في التواصل وفي أنواع التعلم كافة.”[7]
وفي حالة المغرب تعتبر المؤسسات التعليمية بعد الأسرة فضاء اكتساب اللغة والمعرفة، ومن هنا نعود لنقارب التساؤل حول العلاقة بين اللغة الرسمية وطرق اكتسابها وعبرها بناء المعرفة؟؟ وهنا نجد أنفسنا أمام وضعية ملتبسة:
هل التدريس بالعربية يؤدي بالضرورة إلى اكتساب اللغة العربية وامتلاكها تواصلا وتمثلا وإبداعا؟ وكيف يمكن التمييز بين التدريس باللغة بالعربية، وكون اللغة العربية مادة مدرَّسة؟ هل يتكاملان أم أن هذه الثنائية تفرق بين اللغة والمعرفة، وكذا بين اللغة في ذاتها من جهة ولغة المعرفة من جهة ثانية؟؟
ويهمنا أن نركز هنا على اللغة العربية باعتبارها لغة مدرَّسة، لأن من شأن ذلك أن يبين إمكانية حصول تنمية فكرية أو تعثرها، وهنا سنكون مجبرين على الحديث عن تدريس مادة اللغة العربية بالمدرسة المغربية، وكيف خططت السياسة اللغوية المغربية لهذه المادة.ومعلوم أن تنزيل التخطيط على مستوى المواد الدراسية يمثله المنهاج، فوثيقة المنهاج تؤكد ذلك، فقد ورد في منهاج اللغة العربية ما يلي: “يتمثل المنهاج التعليمي في كونه التخطيط المنظم لعملية التعليم والتعلم”[8].
فالتخطيط للغة العربية باعتبارها مادة مدرسة أو مادة للتدريس يضعنا أمام مهمة تنمية كفايات اللغة العربية لتمكين المتعلمين من اكتساب اللغة والتواصل والإبداع بها، وفي هذا الاختيار مغامرة يحفها خطران:
الأول – إن الحديث عن اللغة العربية باعتبارها فعلا ممتدا في مواد متعددة يجعلها خارج عملية الضبط على مستوى التخطيط والتقويم اعتبارا أن لكل مادة عربيتها؛
الثاني – إن هذه المقاربة قد تقود في نهاية المطاف إلى التضيق على الكفايات الأساس لمواد يبدو أنها غير معنية بتنمية الكفايات اللغوية؛ مما قد يؤدي إلى إعادة النظر في التكوين الأساس والمستمر لأطر التدريس والتربية ليمتلكوا ناصية اللغة العربية قبل امتلاك المعارف المختصة بالمادة.
ومهما يكن فسنعتبر بأن المنهاج هو التخطيط الرسمي للمواد الدراسية وضمنها مادة اللغة العربية، وعندما نتحدث عن مادة اللغة العربية فإننا نجد أنفسنا أمام مكونات تمتح من حقول معرفية متعددة: الأدب بشتى أجناسه ــــ النقد الأدبي ـــــــ النحو ـــــــ البلاغة ـــــــ العروض ــــ مهارات القراءة … لنتساءل: كم يشكل الاهتمام باللغة العربية بوصفها لغة في ذاتها، وليست أداة للتعلم واكتساب المعارف، ضمن مكونات المادة؟ وهل تنمية كفايات مادة اللغة العربية تؤدي بالضرورة إلى تنمية الكفايات اللغوية؟
[1]ـــــابن حزم الأندلسي، الإحكام في أصول الأحكام، ج.1 ، ص: 32. أورده عبد القادر الفاسي الفهري في كتابه: السياسة اللغوية في البلاد العربية – دار الكتاب الجديد المتحدة – ط 1 ، شتنبر 2013 – ص 05.
[2] ــــــعبدالسلامالشدادي:وضعياتاللغاتبالمغربوآفاقها،- الندوة العلمية الثالثة للمجلس الأعلى للتعليم في موضوع: “تدريساللغاتوتعلمهافيمنظوماتالتربيةوالتكوين”ص : 117.
[3] ــــــ نفسه، ص : 118.
[4]ــــعبد القادر الفاسي الفهري – السياسة اللغوية في البلاد العربية – دار الكتاب الجديد المتحدة – ط 1 ، شتنبر 2013 – ص ص 116 ـ 117.
[5] ــــنفسه ، ص : 117
[6] ـــــ الدستور المغربي ـــ الفصل 05.
[7] – عبد المجيد نشواتي – علم النفس التربوي – دار الفرقان للنشر والتوزيع – عمان – ص 171
[8] – منهاج اللغة العربية – 1996 – ص :