القراءة، والباب المسدود !

أحمد طاهيري5 مايو 2014
القراءة، والباب المسدود !

لقد تعددت أسباب تعثر المتعلمين في مسارهم ،وهم مشدودون إلى أكثر من وسيلة من وسائل التسلية وزج الفراغ،كمشاهدة مباريات كرة القدم ،المحلية والدولية،والتجوال بين رياض صفحات الشبكة العنكبوتية،رغم أن العائدة لدى الأغلبية ممن يبحرون في خضمها تكون هزيلة إلى منعدمة،خاصة أن هؤلاء ينجدبون إلى صفحات التواصل الاجتماعي، وما يتخللها من تواصل وتعارف، فهي المهيمنة والآخذة لحصة الأسد من أوقاتهم واهتماماتهم،ماعدا القراءة،بمفهومها الدلالي والوظيفي، فهي عندهم ضئيلة جدا إلى منعدمة بدورها،رغم أنهم يقرؤون ويكتبون وهم يتواصلون فيما بينهم عبرما ذكرنا،لكنهم يُسفـّون إذا عبروا،ويلحنون إذا كتبوا أو قرأوا،لأن كثيرا مما يكتبون على جدران بعضهم البعض لا يرقى ولم يرق بعد إلى مستوى الكتابة وما يخضع لها من طقوس الجودة والسلامة من أخطاء الإملاء والنحووالتعبير.
إن من يتتبع محاولات المتعلمين حين يعبرون عن موقف أو رأي أو فكرة أو يريدون أن يصفوا حالة ما،يجد العجز لديهم طاغيا ،ومثل ذلك يكونون حين يقرؤون مقالا أوبعضا منه،فليس العجز باديا في الأخطاء التي يرتكبون فحسب،وليس في التهجي والتلعثم كذلك فقط،وليس في تقويض المباني والقواعد التي بنيت عليها المواقع والحركات الإعرابية لمّا يتلفظون بها كذلك وكفى،وإنما في كل ذلك ومثله في جانب له من الأهمية ما يجعل القراءة الجيدة مفتاحه الوحيد،ألا وهو الفهم لما يراد قراءته،ذاك الذي لا يتأتى إلا بشيء أساسه التجسيد والتمثيل والانفعال،بعيدا عن الاسترسال الآلي الذي يخلو من احترام الأفكار وتعاقبها وتداخلها وعلاقة بعضها ببعض،أو انفصامها وتنافرها،وكذا محاولة تقريب الحالة النفسية أو الاجتماعية أو غيرها مما يستضمره النص المقروء وكم من قارئ تتابع معه هذه الغاية وهو يقرأ،فتجده غير مدرك ولا مهيمن على المعنى المرتقب من وراء عبارة كثيرة الجمل ومتداخلة المباني،وتراه لا يحسن النزول وأخذ النفس عند المحطات التي توفرها الفواصل والنقط،الشيء الذي يكرس عقم هذا النوع من القراءة،هذه التي يتنافس التلاميذ ويتسابقون في التناوب عليها،من غير أن يستحضروا ما هو أبلغ من غايات القراءة،وليس القراءة المجردة في حد ذاتها،وحتى لو كان هذا النوع هو المرصود،فإن الأكثرية لا تفلح في إعطاء نموذج يبعث على الاطمئنان ويحسس بالارتياح،إلا عند من رحم ربه،وهم قلة.
إن القراءة التي عهدها التلاميذ في الصفوف الدراسية الابتدائية التي تواكبها مراقبة التصحيح لأخطائها،إنما هي أولى مراحلها،التي تهيء المتعلم إلى مرحلة ذات أهمية،وإن كانت الأخطاء ما تزال ترتكب في حقها،وما تزال معها عملية التصويب والتنبيه إلى الصواب تواكبها وتجري مع القراءة على قدم وساق،وهما تسيران جنبا إلى جنب،ولكن يجب أن تكون فيها نسبة ارتكاب الأخطاء قليلة،ويجب أيضا أن تعكس مدى استثمار واستحضار وتطبيق ما قد لقيه هذا المتعلم في تلك المرحلة من تعلمات وموارد معرفية تتكون حمولتها أساسا من مهارات الضبط والتحكم في المقروء، بعيدا عن هفوات اللسان والتعثرات القرائية التي تتخللها ،فتكثر فيها الأخطاء، وتتخللها ترقبات وتنبيهات تصحيحية غالبا ما تصوب على ما يرتكب في حق قواعد النحو.في حين أن القراءة في الصفوف الإعدادية فما فوق،تنتظر من المتعلم أن يمتطي الإطار الخارجي للنص بعد إتقان التلفظ به،وذلك من أجل استبطان ما يقرأ،ليكتشف ويفهم ويحلل ويركب ويقدر على تحديد حمولة النص المتعلقة بجانبه الجمالي والقيمي،والمحاكاتي، ويبدي مدى تفاعله مع ما يقرأ حتى تتغذى لديه تلك الملكة القابعة في أعماقه،والتي تحتاج إلى نمو شبيه بنمو الكائن،ثم يقدر بعد ذلك أن يكون له أثر شخصي ذاتي من ذلك المقروء وبفضل ذلك النوع من القراءة، فيوافق أو يعارض أو يحس بأن في داخله رأيا أو موقفا يريد الخروج، فيتلقاه اللسان بتوجيه عقلي بالعبارة الفصيحة والمعبرة، لتكون كل هذه المتداخلات من نتائج القراءة، وليتم تجاوز الفك للرموزالظاهرة، إلى الكشف عن الغايات الباطنة،والرسائل المستهدفة.
إن مشكلة القراءة كمشكلة الكتابة،فهما أمران متلازمان،يصيب أحدَهما ما يصيب الثانيَ من عوامل الصحة أو العلة،ذلك أن المتعلم لا يُنتظر منه الجودة في الكتابة ،وأعني بالكتابة الجيدة،الكتابة السليمة من كل الأخطاء،مادام متعثرا في القراءة،يعجز عن أداءِ لقراءة جيدة سليمة بدورها من أخطاء النحو وما يستدعي أمره من ضرورة الخضوع للإعراب،وما له من علاقة تحكمية في أن تصير أية قراءة قراءة ً جيدة.وهكذا تظل هذه العلاقة بينهما قائمة،مثلما تظل معاناة المدرسين مستمرة،بل هي في ازدياد،وهم يقوّمون ويقيّمون ما ينجزه المتعلمون من ملفوظ الكلام ومكتوبه.
ثم إننا في عصرنا لم نعان من عدم قراءة المتعلمين قراءة جيدة مقبولة مطـَمئنة فحسب،ولكننا نعاني من عدم القراءة المطلقة،وهو عزوف صارخ ينزل بثقله على حمولة المشاكل التربوية في بلادنا ،فيزيدها ثقلا على آخر،فإذا بآمالنا العريضة التي تحدونا في ظل مهنة التعليم إلى الرفع من جودة هذه الأخيرة،وإلى الارتقاء بها من أجل النجاح،تتبخر،أو تظل على سطح بحرها الصاخب رواكد، ما دامت الريح التي تسير بفضلها ساكنة.