التعليم: متاهات إيجاد المعنى/ بقلم الأستاذ حسن اللحية

التعليم: متاهات إيجاد المعنى/ بقلم الأستاذ حسن اللحية

لم يناقش المغاربة الميثاق الوطني للتربية والتكوين بما يكفي، حتى يتملكوا تصورِا ما لمعنى المدرسة الوطنية الجديدة الوارد فيه. ولم يتوقفوا عند مضمون ما جاء فيه بخصوص علاقة المدرسبالمحيط وربطها به، ثقافيا واقتصاديا، لم يناقشوه بناء على مرجعيات في الدولة والاجتماع والسياسة والاقتصاد، ولذلك وجدوا أنفسهم أمام انحسار في الفهم عبّر عن نفسه بالأجرأة دون كيف.
لقد كانوا تحت الاستعجال وهم يُحضّرون للميثاق، كانوا تحت الاستعجال وهم يعيشون فترات الانتقال السياسي ولم يتملكهم الوعي البعدي بماهيته. لم يناقشوا خلفيات الميثاق الوطني للتربية والتكوين نفسه، ليتملكوا ماهية مدرستهم الوطنية الجديدة، مما جعلهم يسقطون في خطاب الأجرأة، التقني والتقنوي، الذي ساد منذ سنة 2000 إلى اليوم، حيث أفضى المسار إلى اختزال التعليم في التعليم النافع، أي مدرسة يريد الميثاق؟ أي مواطن تُعدّ؟ أي مدرس وأي تكوين تدعو إليه؟ لماذا غمرت المفاهيم الاقتصادية الميثاق الوطني للتربية والتكوين؟… إلخ.
لقد ظلت مثل هذه الأسئلة مُغيَّبة في خطاب الفاعلين عامة، رغم التحولات الكبرى التي يعرفها العالم اقتصاديا، حيث سترمي بظلالها على الأنظمة التعليمية. ولكي تتضح لنا الصورة جيدا، نعالج مآل التعليم العالي في العالم كما يلي:
– منذ 1995، بدأ التفكير في خوصصة التعليم الجامعي، ليدخل المنافسة وقانون العرض والطلب: عرض معارف وأبحاث، عن طريق الاتفاقيات العامة للتجارة والخدمات ومنظمة التجارة العالمية، في ما بعد.

– تحتم الاتفاقات شواهد خاصة بالمنتجات لحمايتها، مثلما يجب أن يحمي الأستاذ ما توصل إليه من نتائج ليسوقها.
– من أجل أن يتم التسويق، وجبت مطابقته مع النظام التعليمي الأوربي، أي إعادة هيكلته ما بين 3 إلى 5 سنوات وإدخال نظام الدَّين وتوحيد معايير الجودة ووضع مقررات مشتركة للدراسات والتكوين والبحث بين التخصصات.
لهذا الإصلاح خلفيات وعواقب، منها أننا عوض أربع سنوات، أصبحنا أمام سلكين من ثلاث سنوات وسنتين للماستر، مع إدخال آلية لانتقاء نخبة جامعية لا تتعدى 20 في المائة من مجموع الطلبة، ما يعني أن البقية ستغادر الجامعة بعد قضائها مدة ثلاث سنوات عوض أربع، كما كان عليه الحال في السابق. ثم إن نظام الدراسة سيعرف تغييرات بإدخال الأقراص المدمجة والتعليم الرقمي والتكنولوجيات الأخرى والعمل بالجودة، على غرار المقاولة.
وما يشد الانتباه هو التنصيص على ثقافة الامتياز والتفوق والعبقرية، سواء في التعليم العالي أو في الأسلاك الأخرى من التعليم، هذه الفئة التي ستستفيد من الدعم والعناية والرعاية، والتي ستصبح «نخبة» التسيير والتدبير والبحث العلمي حينما تجد من يتكفل بها، كالشركات والمقاولات.
ثم إن الإصلاحات الجارية تنص على وضع مجزوءات مشتركة بين جميع التخصصات، وليس الانطلاق من الأساس المعرفي والعلمي للتخصص، حتى يتسنى تسويق منتوج موحد للشركات الراعية للإصلاح، مثل تومسن أو سيمنس أو غيرها من الشركات المؤثرة. والنجاح يتم وفق نظام الدَّين، لأنه من غير المعقول أن يتم الرسوب في مجزوءة واحدة. هنا، يتم أخذ الوقت بعين الاعتبار، لأن الزمن كما تفهمه المقاولة هو زمن الإنتاج، الزمن الذي يدر الأرباح، وكل تكرار للطالب هو خسارة مادية، بالأساس.
إن الأمر يتعلق بتنافس يفرض السرعة والنجاعة لتلبية الطلبات والأسواق بالبضاعة، وتلك هي الصورة التي سيكون عليها طالب الغد، طالب بمعرفة سطحية، لأنه أصبح رهينة المعرفة النفعية.
سيصبح البون واسعا، إذن، والفرق بيّناً بين أغلبية تتوفر على دبلومات «بدون قيمة» ونخبة بدبلومات «محترمة»، تلج عالم البحث والمشاركة في المعرفة. وبذلك، تتحول الشهادة الجامعية إلى شهادة ثانوية.
أما الأساتذة فسيخضعون في بحثهم العلمي لمنطق الضغط المُمارَس من قبل المقاولات (شركاء المدرسة، المحيط الاقتصادي الذي انفتحت عليه المدرسة..) وبالتالي تصبح خاضعة لقانون الملكية الفكرية، أي لقانون التبضيع والتسويق والتجارة.
هكذا، أصبحت ماهية التعليم النافع تمتح من تصور فلسفي في النفعية، من فلسفة في البراغماتية.
نشير إلى أن النزعة النفعية أسسها الفيلسوف الإنجليزي جريمي بنتهام قي القرن الثامن عشر. لا تبحث النزعة النفعية في إصدار أحكام كما هي، وإنما وفق النتائج. كما تختار الفعل تبعا للنتائج وتحيل على بعض النظريات القائلة بالفعل العادل، مثل نظريات جريمي بنتهام وجون ستيوارت ميل وهنري سيدويك. والفعل العادل يكون في وضعية معطاة، بمعنى الفعل الذي يجب اختياره، وعدالة فعل لا يحكم عليها إلا بالنتائج، فكلما كانت النتائج نافعة، وجب تحبيذ الوسائل من أجل تلك الغاية.
النفعية مذهب أخلاقي يفترض في المعنى السلوكي فرضية تقوم على كل ما هو نافع وجميل، وعلى أن النفعية يمكن تحديدها عقلانيا، أي إن النفعية نزعة أخلاقية تتكون من قواعد سلوكية تحولت إلى نمط تقويمي للأشياء، من جهة الاقتصاد، وإن الحكم على السلوك الفردي والاجتماعي يتأتى من خلال المنفعة الاجتماعية، وفي غالب الأحوال، على كل فرد أن يفكر في الفرد الواحد، أي في ما ينفعه هو.
في التعليم، تعني النفعية المهارة والإتقان والمعارف النافعة نفعا مباشرا، لذلك تعطي المدرسة الجديدة الأهمية للكفايات العرضانية، عوض الكفايات التخصصية، أي الكفايات القابلة للتعبئة والتحريك والاستثمار المباشر في الحياة اليومية، عملا بمبدأ المردودية الاقتصادية والبحث المستمر عن التنظيم الجديد للمدرسة. لذلك ترى «OCDE» أن المدرسة النافعة هي المدرسة التي تعيش على إيقاع حركية التكنولوجيات الجديدة للإعلام والاتصال كأداة للتعليم والتعلم في ما يخص الكفايات الأساسية.
المدرسة ورهانات النزعة النفعية
يدور نقاش عالمي، في السنوات الأخيرة، حول مصير المدرسة، وهو نقاش لا يخفي إرادات الهيمنة والتسلط والصراعات غير المتكافئة والمقاومات الفردية والجماعية، الواعية والتلقائية، حينما يعبّر عن نفسه بمظاهرات مناهضة للعولمة، في العموم، أو مناهضة للإصلاحات التي تعرفها الأنظمة التربوية التي تصب في إحدى وجوهها في سياق إيجاد معنى للمدرسة، أو بتعبير أدق كلما طرحت القضايا الاجتماعية والاقتصادية ومستقبل الشباب والتنمية الشاملة إلا وطرحت معها المدرسة للنقاش العمومي: ما هو دور المدرسة اليوم وغدا؟..
إن الصراع حول إيجاد معنى للمدرسة يتخذ، ضمن هذا الحوار والصراع، عناوين متنوعة ومختلفة لا تخلو من إغراءات ومكر وخداع وبلاغة وجاذبية، مثل السؤال الاستنكاري التالي: لماذا تصلح المدرسة اليوم؟.. وهو سؤال يطرحه البعض لتقبل النزعة النفعية المتزايدة في التعليم والتربية، التي تختزل في المعارف النفعية: ماذا نفعل بهذه المعارف التي تقدمها المدرسة؟ لماذا ندرس أفلاطون وأرسطو؟ لماذا ندرس التاريخ كتاريخ للماضي؟!..