إزاء حقل سياسي موسوم بالفوضى والشغب وانتهاك القيم المؤطرة للعبة,تنهض التربية السياسية كرهان ينبغي كسبه للحؤول دون تشكل بوادر الانقسام في حركة المجتمع ومساره,ولاستعادة التوازن و تغيير الثقافة السياسية السائدة بأخرى تتخطى الولاءات الضيقة,وتضمد الإحساس المشترك بالتضامن و الهوية الموحدة.إن ماانحدر إليه بعض السياسيين اليوم من توظيف لقاموس التشهير والتخوين و العمالة,أوالتمسك بخطاب متآكل أومتهافت تنفصل فيه الفكرةعن الأداء والسلوك,لهو انحراف مؤلم عن القيم السياسية التي يُفترض أنها قوى محركة للعمل والتأييد والمشاركة,كما يغذي العزوف واللامبالاة و الشك المتنامي في جدوى العملية السياسية برمتها!
وبما أن العالم يشهد اليوم تحولات عميقة أفرزتها العولمة,وتصاعد وتيرة الأحداث بفعل تضارب المصالح بين الدول,فإن الاهتمام بتربية سياسية لأطفالنا منذ سن مبكرة يسهم لامحالة في التشجيع على الاهتمام بقضايا المجتمع والشعوربالمسؤولية العامة,وبالتالي المشاركة الإيجابية في صنع القرار.
لكن,مالذي نقصده بالتربية السياسية؟
وهل يتعلق الأمر بمعارف ومهارات واتجاهات تعيد إنتاج المجتمع بثقافته السائدة وممارساته السياسية الخاطئة,أم ببناء معرفي ومنهجي حيوي يغرس الشعور بالولاء للوطن ومؤسساته ورموزه,دون إهمال الاستعدادات السلوكية التي تكسب الطفل هويته,وتمنحه مساحة واسعة من الحرية في التعبيرعن ذاته وميوله بعيدا عن أية هيمنة أوتأثير؟
تفضي التعريفات العديدة لمصطلح التربية السياسية إلى القول بوجود اتجاهين يميل أحدهما إلى حصر وظيفتها في تلقين القيم ومفردات النظام السياسي الضامن لاستقرارالمجتمع وبقائه.فهي عند “فريد غرينشتاين” و”كينيث لانغتون” سعي رسمي لنقل الثقافة السياسية من جيل إلى آخر يتضمن إكساب الطفل قيم ومعارف مناسبة تجاه نظام سياسي معين لضمان التأييد والانسجام الضروري بين ثقافة المجتمع ومؤسساته.أما الاتجاه الثاني فيدعو إلى تخطي حدود التلقين صوب إكساب الفرد قيما ومعايير تتيح له التعبير عن ذاته,والتفاعل مع المواقف السياسية المختلفة إما بالقبول أوبالرفض.إنها العملية التي تتيح له إنضاج وعيه إزاء النسق السياسي والإسهام في تعديله أو تغييره لمسايرة منطق العصر,أووفق ما تقتضيه ضرورة الفكاك من أسر التبعية والتخلف.ورغم ثنائية الموقف تجاه مفهوم التربية السياسية ووظيفتها إلا أن كلا الاتجاهين يلحان على ضرورة تكامل الأبعاد الثلاثة في تشكيل بذور الوعي السياسي لدى الطفل:
•البعد المعرفي: ويتضمن إكساب المعارف و المعلومات الضرورية لفهم الأحداث السياسية وتقييمها, والتشرب التدريجي للوعي السياسي.وهذا البعد هام وحيوي لأنه يؤسس لعلاقة متينة بين الفرد والنظام القائم, لذا فإن تجاهله أو ضعف الاهتمام به يولد ثقافة سياسية ضحلة ومحدودة .
•البعد الوجداني: ويتعلق بالقيم المرغوبة اجتماعيا و سياسيا,والتي يؤدي غرسها إلى توليد الشعور بالإيجابية نحو النظام السياسي في البلد,والإحساس بالانتماء والالتزام بقواعد العمل السياسي والولاء للمؤسسات الضامنة لاستقرار المجتمع.كما يسهم في الحد من السلبية السياسية المغذية للعزلة و الاغتراب.
•البعد المهاري: ويؤهل الطفل للمشاركةوالتفاعل الإيجابي مع الحياة السياسية للمجتمع من خلال الانخراط في العمل الحزبي وتقلد مناصب سياسية,أوالاكتفاء بالتصويت ومناقشة القضايا العامة.ومعلوم أن المشاركة السياسية هي العصب الحيوي للمارسة الديموقراطية,والمؤشر الدال على تخلف أو تطور المجتمع ونظامه السياسي (1) .
و لا يمكن للمدرسة,باعتبارها مؤسسة انتقالية بين الأسرة والمجتمع الأوسع,أن تنهض بمفردها بهذه المسؤولية مالم تتدخل مؤسسات أخرى أثبتت الدراسات دورها الآكد في تنمية الاتجاهات السياسية للطفل,غير أننا ملزمون أولا بتحريرالفضاء المدرسي من العلاقات التسلطية ورواسب المعاش الخرافي والخوافي,كما يسميه الدكتور مصطفى حجازي,قبل التفكير في التنسيق بين هذه المؤسسات وحفزها على جعل السلوك السياسي امتدادا طبيعيا للسلوك الاجتماعي,وتمكين الطفل من الأدوات الكفيلة بإسهامه في تشكيل ثقافة سياسية جديدة والإنصات للقضايا والهموم المشتركة.يقول الدكتور محمود حسن إسماعيل:” المبادئ الديموقراطية عندما تسود الجو المدرسي,بما فيها من حرية الرأي والتعبير والعمل الجماعي بطريقة متوازنة,لها تأثير إيجابي على التنشئة السياسية.وعلى المدرس دور كبير في تنمية وغرس هذه المبادئ في نفوس التلاميذ وذلك من خلال توجيه تلاميذه إلى أسلوب التعامل مع بعضهم البعض واحترام كرامة الفرد وحريته في التعبير عن آرائه”(2).
يقود تدرج الوعي السياسي لدى الطفل خلال المراحل التعليمية إلى سعيه نحو إنضاج فهمه وتوقعاته عبر وسيط ثان هو الإعلام.هذا الأخير بما يمارسه من تأثير معرفي على الرأي العام وتشكيل للآراء و الاتجاهات,يمكنه أن يسهم بشكل فاعل في التربية السياسية شريطة انحيازه إلى الصدق والموضوعية في بث رسائل إعلامية جادة تحرر الرأي العام من الانقياد والإذعان وسلبيات التدفق الإعلامي أحادي الاتجاه صوب إحداث تعديلات إيجابية على النشاط السياسي للفرد.إن الحتمية التكنولوجية التي تدفع اليوم باتجاه التفاعل المتزايد مع الأنترنيت والانتشار الواسع للحاسوب تضع الطفل اليوم أمام بيئة إعلامية جديدة لها بدون شك تأثير جذري على أداء المنظومة السياسية والاجتماعية,فالنقاد الاجتماعيون يبدون اليوم أقل تفاؤلا إزاء النتائج السلبية المترتبة عن التفاعل الهائل مع تقنيات وسائل الاتصال كالنقص في التعليم الثقافي والسياسي,وتدهور الحياة المدنية,وانهيار الحدود الاجتماعية الراسخة,وأدوار الرجل والمرأة(3).وضع كهذا يستحث الإعلام في البلدان العربية للتخلص من دوره التقليدي المتمثل في دعم الاتجاهات السياسية القائمة,صوب التفكير في خلق وإبداع اتجاهات جديدة يتمتع فيها الطفل بالحرية السياسية كقيمة,وبالحق في نقد البنى السياسية القائمة واتخاذ القرار!
ومن خلال التربية السياسية تمارس الأحزاب تأثيرا هاما على القضايا المرتبطة بالتنمية السياسية, لذا تقع على عاتقها مسؤولية تشكيل رأي عام مهتم بأوضاع حياته السياسية وأكثر ارتباطا بالقيم والمبادئ التي تزيد من فاعلية النظام السياسي بشكل عام.ويكتسي هذا الدور بعدا مصيريا في المجتمعات السائرة في طريق النمو بالنظر إلى الدور الذي تضطلع به الأحزاب باعتبارها أداة حاسمة في إنجاز الجوانب السياسية للتحديث, وتقوية الإحساس بالمشاركة والمسؤولية,وربط الجماهير مع القيادات بطريقة تمكن من توليد القوة السياسية وتعبئتها (4).
طبعا يثار اليوم نقاش حول الانحطاط الذي آل إليه المشهد الحزبي المعاصر ,والضرر الذي يلحق الحياة السياسية جراء المزايدات والمناورات وتغليب المصالح الشخصية ,إلا أن البديل لا يكمن في التشاؤم المفرط أو اللامبالاة,وإنما في ترسيخ ثقافة سياسية أكثر التصاقا بالقيم التي تعد اليوم أهم عناصر التقدم الحضاري.
تسهم التربية السياسية للطفل في تدعيم القيم الديموقراطية,والارتباط بالقضايا الجوهرية التي ترهن مصير المجتمع الإنساني برمته, كما تعد مدخلا حيويا للمواطنة المسؤولة وصنع القرار.لذا فإن مواجهة مظاهر التحلل السياسي ,وفي مقدمتها العنف, رهينة بتعزيز حضور المعرفة السياسية في مجتمع لا زال “الكبار” فيه يؤمنون أن العمل السياسي مناورة تبدأ خارج أسوار المدرسة !
ــــــــــــ
(1) د.محمود حسن إسماعيل : التنشئة السياسية.دار النشر للجامعات. مصر 1997
(2) د.محمود حسن إسماعيل : التنشئة السياسية. ص 41
(3) أندريا بريس,بروس ويليامز : البيئة الإعلامية الجديدة. دار الفجر. مصر 2012
(4) د.أسامة الغزالي حرب : الأحزاب السياسية في العالم الثالث.المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الآداب.الكويت 1987.ص163