تصنف الوهابية العلم الى نوعين من العلوم: علوم شرعية وعلوم غير شرعية. تقصد بالأولى علوم القرآن والحديث والفقه واللغة والأصول، وتقصد بالثانية الفلسفة والمنطق والرياضيات والطبيعيات والإنسانيات. فالأولى تخص الذات والثانية تخص الآخر.
ولئن كان التاريخ الإسلامي يشهد بازدهار النوعين معا في فترات معينة فإن السنة قد حافظت على مواقف ريبية من العلوم الثانية. فكانت منزلة بعضها التحريم ومنزلة البعض الاخر الجواز مع رسم الحدود والتحذير من وضع هذه العلوم في منزلة الأولى.
إلى هذا الحد يكون وضع العلم عند الوهابية هو علم البيان بالنص المقدس. ولكن ماذا عن العلم في مفهومه الحديث؟ هل العلم الحديث هو علم بيان؟ أليس العلم الحديث بالتحديد هو العلم الموضوعي بالفكرة والطبيعة؟ أليس العلم الحديث هو علم ترييض الطبيعة mathématisation؟ وكيف تطلب الوهابية اليوم من العلم الموضوعي والوضعي أن يتوافق مع علم النص المقدس؟ وكيف تجعل الوهابية من العلم الوضعي شاهدا على صلاحية وحقيقة العلم البياني؟ وهل العلم البياني في حاجة أصلا لهذه الشهادة؟ أم أن في الأمر منعا للمسلمين من الإنخراط في العلم والعصر الحديث؟ ثم أي إبستمولوجيا هذه التي تسوغ أن يكون العلم الوضعي الحديث والفلسفة في خدمة العلم البياني؟…
1- مفهوم العلم.
يقوم العلم الوضعي الحديث على ثلاثة أسس هي : الذات sujet والموضوع objet والمنهج méthode .الذات باعتبارها ذاتا عارفة أي كوجيطو في مواجهة موضوع المعرفة الحاضر والماثل أمامها والذي تدركه من خلال وساطة المنهج العقلاني أو التجريبي أو هما معا. وانطلاقا من هذه العلاقة الثلاثية أمكن تمييز ثلاثة أنماط من العلوم الحديثة وهي العلوم الحقة والعلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية. وهكذا تتعدد الذوات والموضوعات والمناهج ويبقى الثابت هو النظرة الموضوعية إلى الموضوعات المدروسة. النظرة التي تقصي الذاتية وتعوضها بموضوعية العقل والتجريب.
فهل تنطبق هذه المواصفات على علوم السنة الشرعية؟
الجواب هو النفي بكل تأكيد. إذ لا تتعلق العلوم الشرعية بالنظر العقلي الرياضي أو بالتجريب المختبري فموضوعاتها غير معطاة للعقل الرياضي أو العقل التجريبي ومن تم فهي نوع من الآداب أو الدراسات الأدبية وليست علوما بالمعنى الوضعي والحديث للعلم كما تم تحديده ابتداء من القرن السابع عشر الميلادي.
قد يقال ألم تعرف الحضارة العربية الإسلامية العلم والعقل؟ نقول نعم. هذا صحيح ولكنه علم النص وعقل النص المقدس وعقل المعنى والحقيقة المطلقة، كما وضحه ذلك المفكر عبد الله العروي في كتابه: السنة والإصلاح. إنه علم بالله وليس علما بالطبيعة كما هو الشأن في العلم الحديث الذي هو علم وعقل الطبيعة النسبي والسببي. ومن تم فلا مجال للمقارنة بين نمطين من النظرة إلى العالم. بين عقل يعقل الطبيعة وينتج علوم الطبيعة ويعقل الذهن وينتج العلوم الحقة ويعقل الإنسان وينتج العلوم الإنسانية، وعقل يعقل النص المقدس وينتج علوم البيان. لا مجال للمقارنة بين عقل رياضي يحسب كل شئ ويحول كل شئ إلى أرقام ودوال ومعادلات ومركبات من القوى الفيزيائية والكيميائية والميكانكية والإلكترونية وعقل بياني يتأمل النص وملكوت السماوات والأرض ويفتي في كل شيء.
2- الإعجاز العلمي وغياب الدرس الإبستمولوجي.
ترى الوهابية أن كل ما جاء به العلم الحديث يوافق الكتاب ويشهد على الألوهية وصدق الرسالة النبوية. وهكذا يجتهد فقهاء الوهابية في ملاءمة العديد من النظريات العلمية الحديثة بما جاء في القرآن ويعتبرون ذلك نصرا من الله ولسان حالهم يقول: الحق ما شهد به الأعداء. وهذه البضاعة تجد لها مستهلكين كثيرين من بين المسلمين أكانوا أميين أو متعلمين أو مثقفين. فالكل تستهويه اللعبة ويقول عن جهل: وما الضرر في ذلك؟ أليس هذا تأييدا لما عندنا فيزداد يقينه ويتقوى إيمانه. هكذا يبشر الشيوخ بالمسألة في بساطتها. إلا أن ما لا ينتبه له هذا الخطاب هو العديد من التناقضات التي تتولد عن مثل هذه الفكرة. فكرة الإعجاز العلمي في القرآن. ويمكن اختصارها في التساؤلات الآتية: هل يحتاج القرآن والإسلام إلى العلم الحديث ليثبت صحته؟ هل هذه هي الطريقة المثالية لتحدي الغرب وإنتاج العلوم والتكنولوجيا؟ وهل منطلقات العلم الحديث هي منطلقات القرآن الكريم؟ وإذا كان الحق ما شهد به الأعداء أو ليس من الجدير اتباع هؤلاء الذين يشهد القرآن بصلاحية علومهم وصلاح عملهم على الأقل في الدنيا قبل الآخرة؟
يمكن إرجاع مشكلة الوهابية والعلم الموضوعي الحديث إلى تغييب الدرس الإبستمولوجي وفلسفة العلوم في مدارسنا وجامعاتنا في التكوين العلمي لنخبنا وهذا الأمر لا يمكن أن يتأتى إلا بالعودة إلى تاريخ العلم ودراسة تكون المفاهيم العلمية وفلسفة العلوم ونشأة التفكير العلمي وتبيان خصوصياته وتمييزه عن باقي المجالات المعرفية الأخرى. فعدم رسم الحدود الإبستمولوجية بين المجالات المعرفية يسقط في تناقضات لا حصر لها.
لا تعمل الوهابية سوى على القياس. قياس الشاهد على الغائب أي قياس العلم الحديث على العلم البياني واستنتاج نفس النتيجة على الدوام وهي المطابقة. فلكي يصير الحديث حديثا لابد أن يصير ماضيا. هذه هي القاعدة الذهبية لدى الوهابية. يجب إذن أن تنتفي زمانيته ومكانيته وأن ينتمي إلى اللاتاريخ حتى يصير تاريخيا. نوع من تاريخ اللاتاريخ. وهذه هي علاقة الوهابية بالتاريخ عامة وبتاريخ العلم هنا خاصة. فلا علم إلا ما كان وبما كان وكل ما يكون أو سيكون لن يكون إلا ما كان. وهكذا عندما يصبح العلم بلا تاريخ وعندما تتحول النظريات العلمية الفيزيائية والرياضية..إلى بلاغة القرآن فهذا دليل واضح على غياب أي حس إبستمولوجي في الحديث عن العلم الموضوعي والوضعي الحديث. وإذا كان النص الديني نصا مطلقا ومنزها فكيف يمكن أن يحتاج إلى دليل بشري على صحته؟ أليس هذا دليل على عدم إيمان أصحابه به وشكِّهم فيه والتماسهم العون ممن يعتقدون أنهم أعداؤه ثم إن النظريات العلمية نسبية وفانية ومتجددة فكيف تنطبق على ما هو ثابت ومطلق ومنزه؟ وكيف يصير ما هو إنساني دليلا على ما هو إلهي؟ أليس العكس هو الصحيح من وجهة نظر الإيمان؟
قد لا نحتاج إلى هذه التساؤلات التي تدخلنا في متاهة من المفارقات والتناقضات إذا استحضرنا تمييز مجالات العقيدة والإيمان عن مجالات المعرفة العلمية وهذا لن يضر الإيمان في شيء .فالإيمان بالله ورسوله لا يحتاج إلى العلم وإنما إلى القلب. فالإيمان حدس وحب إلهي وليس معادلة رياضية أو فيزيائية. ومن يراجع حجة أبو حامد الغزالي سيعرف أن العلم لا يقود إلى الإيمان وإنما إلى الحقائق الذهنية الصورية. وهكذا تفرغ الوهابية العلوم من سياقاتها الفلسفية والابستمولوجية لتعمل على ملئها بما تسميه الإعجاز العلمي في القرآن.
إن سلوك الوهابية هذا تجاه العلم الحديث قد فوت على المسلمين إمكانية إنتاج العلوم والانخراط في الحياة المعاصرة بجدية كما فوت عليهم الإيمان الحقيقي ورمى بهم إلى النفاق الإلهي. فلا علم أنتجوا ولا إيمان أصابوا. وفيهم يصدق الحديث الشريف: “المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى”.
3 – الوهابية والمدرسة الحديثة.
لقد أدركت الوهابية مبكرا الدور الريادي للمدرسة الحديثة في التنشئة المدنية للمتعلمين والمتعلمات وعملت بجميع الوسائل على عرقلة نموها وازدهارها. والمدرسة المغربية لا تشكل استثناء في هذا السياق. فقد تم اختراقها منذ الثمانينيات من القرن الماضي بدء بتشجيع تعريبها ووصولا إلى وهبنة – من الوهابية – مناهجها وبرامجها وكتبها المدرسية من خلال إفراغ مضامينها من كل حس نقدي أو تفكير وإحلال الحفظ والذاكرة والتكرار وإرجاع البضاعة وتغييب التحليل والنقد والمناقشة والإبداع والمجهود الشخصي. وهكذا تحول متعلمونا إلى أدوات للعنعنة والتكرار. يتجلى هذا في الفلسفة كما في الرياضيات وباقي العلوم بدون استثناء، مع جعل الدين مقياس كل المواد التعليمية التي يجب أن تكون في خدمة الإيديولوجية الوهابية الدينية. ولنأخذ الفلسفة والرياضيات مثالا على ذلك في تعليمنا. فنحن نَتبنّى تعليم الفلسفة وليس تعلّم التفلسف والتفكير النقدي بالرغم من ادعائنا للعكس. ويتجلى ذلك واضحا في المنتوج النهائي للكتابة الإنشائية لمتعلمينا حيث يغيب التفكير الشخصي وتسود النمطية والحفظ وقال فلان وقال فلان دون القدرة على تحليل تلك الأطروحات ومناقشتها ونقدها. نفس الأمر ينطبق على الرياضيات وباقي العلوم التي تحوَّل تدريسها إلى عمليات ميكانيكية وتدريب نمطي على سلسلات للتمارين تنتهي بالمتعلم إلى قياس الشاهد/التمرين على الغائب/سلسلة التمارين، دون أن يتمكن المتعلم من استدماج قيمة التفكير الرياضي المنطقي والعقلاني والكوني. وهكذا سيطر “المنهج” التلقيني على حساب جميع البيداغوجيات التي تبنتها المدرسة المغربية بدء من بيداغوجيا الأهداف ووصولا إلى بيداغوجيا الكفايات التي تبقى مجرد حبر على ورق. فتغيب الأذواق وتحضر الأوراق.
إن أكبر خطأ نقترفه في حق ناشئتنا هو حرمانها من حق التفكير والتعبير وتنمية شخصيتها المدنية، وبعد ذلك نتساءل لماذا هناك تطرف وإرهاب بين ظهرانينا؟ ربما نسينا أننا تواطاءنا مع مخرّبي وطننا. انطلاقا من هذا يمكننا نتساءل لماذا فشلت كل محاولات إصلاح منظومة التربية والتكوين؟ ولماذا ستفشل كل المحاولات القادمة؟ ما لم يتم الوعي بخطورة المنظور الوهابي وقدرته الفائقة على الفتك بجميع المعارف والعلوم والمكتسبات الإنسانية عندما يحوّلها إلى علوم غير شرعية ويسفهها ويزندقها. ولذلك فالمدخل الحقيقي لإصلاح منظومتنا هو العمل على رفع الوصاية الوهابية على المدرسة المغربية أولا. أما ما تبقى فهي أمور تقنية يسهل التغلب عليها بتضافر الجهود.
إن متعلمينا أكثر ذكاء اليوم من مدرستنا ومناهجنا وبرامجنا وكتبنا المدرسية. كما يجب أن نعترف بأن مدرستنا تستبلد متعلمينا وتحتقر ذكاءهم الفردي والجماعي ولا تنَمّي شخصياتهم وقدراتهم الإبداعية. ولذلك علينا أن لا نستغرب من نفورهم منها وعزوفهم عنها. لقد توصل متعلمونا إلى قناعة هي بمثابة رسالة يجب أن تصل إلى الجميع ولسان حالهم يقول: “مدرستكم مضيعة لوقتنا وحياتنا، مدرستكم سجن لأحلامنا.” وهم في ذلك على حق.
علينا أن نعي جيدا أن المدرسة الحديثة وُجدت لتنمية الفرد والمجتمع تنمية مستدامة وشاملة وليس للانتصار لمذهب أو طائفة أو إيديولوجيا بعينها.