تختلف تقديرات الناس لخطورة ظاهرة الغش، باختلاف مواقعهم وقدراتهم على التحليل ، ومستوى تقديراتهم لأثرها على النظام التربوي خاصة ، والمجتمع بصفة عامة . فمنهم من يهون من شأنها ، مواسيا نفسه بالعبارة المبتذلة ، المكرسة للفساد : ( إذا عمت المصيبة هانت ) ، ومنهم من ينظر إليها في علاقة مع مظاهر الفساد المجتمعي ، بحيث يرهن علاجها بعلاج مختلف آفات المجتمع الكثيرة ، بل منهم من تحكمه نزعة ميكيافلية فيعتبرها نوعا من الشطارة والحذق، غير مبال بانعكاساتها على المجال القيمي ، ومنه على العلاقات القائمة في كثير من دواليب الحياة ، ومنهم من يعزيها إلى أسباب تاريخية ، فينظر إليها على أنها ظاهرة كونية لا سبيل إلى القضاء عليها ومنهم ومنهم …
غير أن استشراء الظاهرة واستفحالها في المجال التربوي يقض مضجع كل غيور على المغرب ، فلا يملك إلا أن يمتعظ منها ، ويوجه الاتهام فيها لهذا الطرف أو ذاك ، محملا كبير المسئولية لمن يملك السلطة التربوية ، ويحكم باسمها وعلى أساسها . وحيث أن تاريخ النظام التعليمي لم يسلم من الغش في أي وقت من الأوقات ، فقد وجب التفكير الجماعي في إيجاد الحلول لها ، بعيدا عن التعصب أو العمل وفق نزعات الإقصاء ، فالمغرب في مثل هذه الحالات محتاج إلى رأي كل مواطنيه ، على قاعدة أن الجميع من حقه المشاركة في حماية وطنه مما يتهدده .
لا ينكر إلا جاهل أهمية المعالجة القانونية والإدارية لآفة الغش ، لكنها مقاربة ضعيفة بالقياس لحجم الظاهرة وتعدد العناصر الفاعلة فيها ، كما أن تداعياتها وانعكاساتها لا تقبل بغير المقاربة الشمولية ، فقد سمعنا منذ عهد قريب أحاديث عن الغش في مباراة خطباء المساجد في إحدى جهات المملكة ، كما عاينا الغش في الانتخابات ، وتتبعنا تزوير إرادة المواطنين ، وقرأنا ونقرأ يوميا الغش في المباريات المتعلقة بالتوظيف ، وفي الصفقات العمومية ، وفي الإقصائيات الرياضية ، وفي الامتحانات المهنية ، وفي الاختيار للمناصب الحساسة والعمومية ، مع ما يرافق ذلك من عناد وسعي من طرف المسئولين الحكوميين لإسكات الجمهور بقوة السلطة ولي أعناق القانون ، ليتجرع المواطن مرارة الواقع ويقبل ما لا يقبله إلا عاجز. أما وأن نقبل بوضع اليد على عامل مفرد ومعزول ، من بين عوامل عدة ، لنقول إن هذا هو سبب الغش في الامتحانات ، فتلك لعمري قمة الضحك على الأذقان ، وقمة الاستخفاف بالجمهور . إن السياسة التي أصبح انعدام الأخلاق من لوازمها ، تبيح ما لا يباح ، وتبرر ما لا يبرر ، لكن أن تحجب الشمس بالغربال ، فهذه جهالة جهلاء وحماقة لا مثيل لها .
لقد صرح السيد وزير التربية الوطنية بأن الغش وراءه عصابة ، وتلك حقيقة ، لكن العلاج لا يمكن أن يتم بإجراءات زجرية فقط ، بل لا بد من وضع ضوابط وقواعد أخلاقية وإرساء نظام من القيم يحمي المدرسة المغربية مما دب إليها من مفاسد المجتمع ، حتى لا يصبح الغش مشروعا ينظر له المنظرون .إن الممارسة البيداغوجية هي أيضا تحمل في طياتها بعض أسباب الغش ، وقد كان حريا بالمسئولين التفكير في ذلك قبل الامتحان بمنطق وقائي وليس علاجيا. فالمدرسة المغربية التي تكرس الميز على طول السنة ، لا يمكنها إلا أن تنتج ردود فعل في مرحلة الحصاد . لقد كانت وما تزال ظاهرة الساعات الخصوصية معضلة لا يزيد السكوت عنها إلا تعميقا للحقد الاجتماعي بين التلاميذ ، وإن غياب الضمير عن العديد من الممارسين لا يمكن إلا يستمر في تعميق المفاسد ، ما دام خطاب النفاق الاجتماعي يكرس مدح رجال ونساء التعليم جميعهم وكأنهم سيان ، وإن ضعف المراقبة والضبط التربوي وغيره ، ليجعل من المدرسة كيانا محكوما بالفوضى ومنطق الغاب ، وإن تصريف الأزمات باختلاف السبل التي يركبها من لا يؤمنون برسالة المربي ، كل أولئك لا يمكن إلا أن يساهم في البحث عن الحلول غير المشروعة لتأمين المستقبل ، وفي هذا يجد الغش مرتعه وإكسير حياته .
إن سياسة القرب المنعدمة كليا في المجال التربوي ، تجعل البعض من المسئولين والممارسين التربويين يشتغلون بمنطق بعيد كليا عن قيم التربية ، وهكذا يصبح التقويم بما هو أداة لقياس مستوى التحصيل يكرس الفساد في القيم ، وهو ما تذكيه بعض الأقلام المأجورة في المجال الصحفي ، مثلما تذكيه بعض الأصوات النشاز في العمل السياسي والنقابي ، فكأني بالسيد الوزير يحارب الطواحين وهو يتصدى لمن يتعمدون نشر ثقافة اليأس من خلال حملات الحط من شهادة الباكلوريا التي ظلت على الدوام عنوانا جميلا في تعليمنا ، لتصبح اليوم لا تسمن ولا تغني من جوع .
إن محاربة الغش ينبغي أن تهم كل مجالات الحياة المغربية ، وأن يشكل لها جهاز يملك قدرا من النزاهة ليضرب على أيدي المتلاعبين بمصالح الوطن الكبرى ، مع اعتبار كل محاولة مهما صغر شأنها عملا إجراميا ، والنظر إليها ، ليس من زاوية التلميذ فقط ، بل من زاوية مختلف الفاعلين التربويين بمن فيهم الأستاذ ، فكم من مسئول يوفر مناخ الغش ويساعد عليه ، حين لا يقدر مسئوليته . ولو كلفت الوزارة نفسها الوقوف على الحقيقة لاعتبرت التلاميذ أحيانا برءاء مما ينسب إليهم ، ووجهت أصابيع الاتهام للامتحان في شكله وآليات تنظيمه ، قبل أن تضع التلميذ في قفص الاتهام . على الوزير أن يسأل التلاميذ لماذا يغشون ، وكيف وصلوا إلى ما وصلوا إليه، وسيدرك أن المقاربة المعتمدة ساذجة ودون مستوى المطلوب . فرفقا بنا وبوطننا يا من اعتدتم النظر إلى المآسي من زاوية واحدة فقط ؟
نحو محاربة استئصالية لظاهرة الغش في الامتحانات
