يشكل إنتاج المعرفة مصدرا للقوة والنفوذ ، وأحد العوامل المحددة لهيكلة المجتمعات محليا ودوليا، وبناء على ذلك يستشعر المرء مدى خطورة التحديات والرهانات التي بات لزاما على المدرسة مواجهتها والتهيؤ لها قياسا الى تنامي وتشعب وظائف المدرسة ، وأمام تعدد أدوار المدرسة وتنوع وظائفها أضحى تأهيل المنظومة التربوية وتطوير فاعليتها ضرورة ملحة لضمان تأهيل المجتمع ومسايرة التنافسية الدولية ومواكبة التحولات التي يشهدها العالم بهدف الاندماج في مجتمع المعرفة. فالتحولات التي تحدث على مستوى النظام التربوي ومناهجه هي نتاج الحراك الاجتماعي الحاصل، وما يحدث على صعيد المدرسة من تغير وتحول، وما يعتمل داخلها من تفاعلات جهد يسد حاجات المجتمع الجديد الآخذ في التكون.
تكتفي المدرسة الراهنة بتسويق وهم مدرسة متطورة ظاهريا، عاجزة في العمق عن أجراة الخطاب النظري، وتقديم منتوج تربوي حامل للكفايات العملية والوظيفية المطلوبة ، فتعلم قواعد التفكير الذي امتلأت به صفحات الوثائق الرسمية يشي بصورة مشرقة لخطاب مدرسي نظري سرعان ما تفتر جدوائيته بفعل الفشل الذي يعتري لحظة تجسيده على أرض الواقع، فالخطاب المدرسي ما يزال أسير تصور ينظر الى المتعلم ككائن ناقص معرفيا، وتتعامل معه على هذا الأساس باعتباره قاصرا عن التفكير والمبادرة والتدخل والابداع، وانطلاقا من موقفها المضمر هذا تقدم له معرفة جاهزة ونهائية لا تثير قدرات التفكير لديه ، وقد يجد المتعلم نتيجة لذلك في ما اكتسبه من تجارب شخصية ومن وسائل الاعلام أو من محيطه العائلي غير قليل من الوظيفية التي لا يتيحها له النص المدرسي، وتبقى بفعل ذلك حصيلة عمليات التفسير والتعليل والاستنتاج والتركيب شبه هزيلة في ظل الواقع التربوي العيني.
ليس الأهم بالنسبة للمؤسسة المدرسية هو رفع شعارات الجودة والحكامة مدونة ببنط عريض في وثائق رسمية وموجهة ضمن تعليمات نظامية، وإنما هو العمل على تصريف تلك المبادئ تصريفا إجرائيا في أفق خلق ضمانات سيكولوجية لدى المتعلمين وحثهم – من موقع العدالة الاجتماعية والتوازن الاجتماعي – على بذل الجهد لتحقيق مكاسب نوعية ضمانا لحسن اندماجهم مع الواقع المدرسي، ولأجل بناء تمثلات إيجابية نحو مستقبلهم التعليمي. فالملاحظ هو البون الشاسع بين الخطاب المدرسي الرسمي وما يبثه عبر المذكرات والوثائق التنظيمية من طموح لخلق فكر نقدي، إبداعي ومنفتح، وبين الواقع الفعلي للعملية التعليمية الذي ينذر بانحدار على مستوى المردودية عنوانه الأوحد بطالة خريجي المدارس والجامعات، هذا المنحى تؤكده التقارير الوطنية والدولية التي تكشف بوضوح اختلالات كثيرة تنخر منظومتنا التربوية وتكبح فعاليتها.
لا يمكن للمدرسة أن تحقق الأهداف المتوخاة منها إلا عبر تجديد أدواتها، وآليات اشتغالها لا سيما على مستوى البرامج والمناهج وتكوين المدرسين، فتجديد المدرسة رهين بشرط إدراك مغزى المدرسة كفضاء للثقافة باعتبارها مصدرا يغذي المعارف والتعلمات، ويضفي المصداقية على وظيفة المدرسة في آن معا، فالبعد الثقافي للمدرسة يخلق للتلاميذ فرصة إضافية للتعلم، ويسهم في إذكاء التنافس وتنمية روح الإبداع.
لقد نأت المدرسة الحديثة بنفسها عن الاكتفاء بدور نقل المعارف وبدور الوسيط في الاكتساب، وأضحت تتيح للمتعلمين التمرس على مساءلة تلك المعارف، وتدربهم على إعمال مقاربة نقدية شكية في تحليل الظواهر والأحداث، فبالتوجيه والاستعمال المنظم تميل فعاليات التلاميذ نحو النتائج القيمة، بدلا من أن تصبح مبعثرة أو متروكة، فتعبر تعبيرا طائشا محضا، فلماذا يواجه النظام التربوي الحالي مشكلة بطالة الخريجين في الوقت الذي يتم في تبني التكوين والتدريس بالكفايات؟
تفيد المؤشرات الحالية بوجود عجز على مستوى الكفايات داخل التعلمات المدرسية ، فلماذا تظل المدرسة حبيسة منطق نقل المعارف الذي يجعل هذه الأخيرة فاقدة المعنى خالية من الفعالية؟ المعارف لا قيمة لها بدون كفايات، ولن يكون لها معنى إلا إذا أدمجت داخل ممارسات ثقافية وفكرية واجتماعية متنوعة، وعلى هذا الأساس وجب ضبط البرنامج الدراسي وحصره، ونزع المعارف عن سياقها يتيح معالجتها والتحكم فيها، وفعل التدريس ينبغي أن ينصب حول طريقة اكتساب المعارف، لأن الهدف ليس هو تعليم معارف، إنما هو تعلم قواعد التفكير واكساب مهارات، فتنمية قدرات التفكير يؤهل لفهم بنية الظاهرة/الحدث وطبيعتها ورصد حركتها ونموها، وإدراك العلاقات بين عناصرها عبر القيام بالملاحظة، وطرح التساؤلات، ووضع الفرضيات، وإجراء التصنيفات، وعقد المقارنات، والقيام بالتفسيرات، والتوصل الى الاستنتاجات الممكنة.
إن تأمل الممارسات البيداغوجية الحالية يفضي الى اكتشاف مدى التباعد بين النوايا المعبر عنها وتلك الممارسات ، وإلى الاقرار بأن التوجيهات الواردة على صفحات النصوص الرسمية لم تترجم بعد الى واقع، ويعزى هذا التباعد الى عوامل كثيرة منها مسألة تكوين المدرسين، واستمرار الوضع بهذه الصورة لا يعرقل الاكتساب المنهجي للكفايات فحسب ، بل يمنع الامتلاك الحقيقي للمعارف أيضا، ويقتضي الاكتساب المنهجي للكفايات خبرة ديداكتيكية قوامها معرفة التفكير في العمل الذي نقوم به بمنطق الإبداع وتدبير وضعيات التعلم عبر الاشتغال على الوضعيات-المشكلة والمشكلات المفتوحة والمشاريع والتجارب، وتكمن القيمة المضافة لهذ الخبرة الديداكتيكية في أن الاشتغال بمنطق الوضعيات يمنح حظوظا وفرصا أوفر لحدوث التعلمات، ويسمح بمواجهة العوائق، ويوفر إمكانية تشخيص المستوى الحالي للمعارف والكفايات، ومن ثم تتبع ورصد التقدم داخل الوضعية نفسها.
إن الخوض في موضوع كفايات المدرسين لا يستقيم إلا بالاستناد الى مرتكزات منها على وجه الخصوص رهان التكوين، فلا مدرسة للجودة بدون مدرسين أكفاء، وتكوين أطر التدريس مرتبط بتوفير تكوين أساسي ومستمر يتميز بجودة عالية، ويرتكز على تحليل الممارسات المهنية وتحويلها، ومراعاة حتمية التفاعل والتكامل بين التكوين النظري والعملي، والانطلاق من الحاجات والاهتمامات الوظيفية للمكونين ، فدور التكوين هو إعادة بناء الحاجيات على أساس التفاوض بشأنها مع المعنيين. ولأن الدور المحور للمدرس هو مساعدة المتعلم على التعلم ، فإن مهمته الأولى تغذو هي ابتكار وضعيات التعلم، وتنظيمها من خلال الاشتغال على الوضعيات-المشكلة والبحوث ودراسة الحالات، والمشاريع وهذا يتطلب تكوينا ديداكتيكيا عاليا يسمح بفهم منطق تفكير التلاميذ واستراتيجياتهم، وأخطائهم وتقديم الحلول الضرورية لها. وفي هذا الاطار من الضروري الإشارة الى استمرار هيمنة المقاربتين الابستيمولوجية والديداكتيكية في تكوين المدرسين على حساب مقاربات أخرى منها المقاربة السيكولوجية التي تسلط الضوء على شخصيات المدرسين وعلائقيتهم، وهي مقاربة أضحى استحضارها في برنامج التكوين ضرورة، لأن التمكن من الشرط المعرفي والتحكم في تقنيات وأدوات التدريسية أمران غير كافيين لتحقيق فعالية الأداء المهني، فتدبير المدرسين لمختلف الوضعيات والتواصل مع الشركاء يقتضي إيلاء التكوين السيكولوجي للمكونين ما يلزم من العناية. فمن المؤكد أن دور المدرس حاسم في التأثير على البناء النفسي والاجتماعي للتلميذ من أجل إعادة الثقة في المدرسة من قبل المتعلمين وتحفيزهم من أجل تجاوز الفشل، والتخلي عن ثقافة الصمت التي ما تزال جاثمة على فصولنا الدراسية بفعل استمرار سيادة التمثل السلبي للتلميذ اتجاه المدرسة كفضاء للإنصات والتلقي والتلقين والتحضير لاجتياز الامتحان، وفي الوقت نفسه امتداد التمثل السلبي للمدرسة إزاء المتعلم ككائن فارغ تنقصه المعرفة بخلاف تسويقها لوهم التعلم، وهذا ما يجعل أغلب التلاميذ يلوذون بالصمت تعبيرا منهم عن رفض البيداغوجيا السلطوية.
إن ما ينمي القدرات العقلية للمتعلم هو ما يطرح عليه مشكلة تستدعي التفكير وبذل الجهد المقدر لمستواه من أجل الاستيعاب ، ويتطلب استهداف القدرات العقلية للمتعلم الاشتغال على مفهوم الذكاء، والعمل على تنميته، والتقدم به في كافة مظاهره، وأبعاده العملية والتصورية والسلوكية من خلال الخبرة الحية والتمرن المستمر على مواجهة المشاكل، والاندماج في علاقات فاعلة باعتبار الذكاء يتضمن ثلاث جوانب أساسية على الأقل، وتتمثل في القدرات التحليلية من خلال إبراز العناصر والروابط، والقدرات التركيبية عبر وضع الفرضيات الممكنة، وأخيرا القدرات العملية متجلية في الأداء والتطبيق والعلاقات، إذ لم يعد القصد من التعلم هو تخزين أكبر قدر من المعارف في الذاكرة البعيدة المدى الى حين استرجاعها، بل صار يخص تدريب المتعلمين على قواعد التفكير وتدبير الوضعيات بإعمال الذهن، ومنحه حركية ودينامية أساسهما الذهاب والإياب في منظومة التفكير الخاصة به، عبر تفكيك وهدم وإعادة بناء لما يتوفر عليه جهازه المعرفي من رأسمال رمزي.
لم يعد مقبولا أن يستمر التلميذ داخل المدرسة في وضع المتلقي السلبي للمعرفة ، لأن المتعلمين في الوقت الراهن لا تعوزهم المعارف، بقدر ما هم في حاجة ماسة الى الكفايات من قبيل القراءة والكتابة، وتقديم منتوج وإيصاله الى الآخرين، وبناء خرائط مفهومية، ووضع الفرضيات، وبصورة أشمل تعلم كيفية التعلم، وإدراك الأخطاء الذاتية، وممارسة الحوار الميتا-معرفي، ورصد مواطن القصور والعجز من أجل معالجتها.
تنمية الكفايات ذات الصلة بالقراءة يقود الى التساؤل عما إذا كانت المدرسة فعلا تعلم التلاميذ تقنيات وأدوات القراءة، وإذا كانت مسألة الرغبة في القراءة ترتبط بعوامل كثيرة ، فإن التربية المدرسية أحد أقوى هذه العوامل، ويقترن فعل القراءة بشرط الرغبة في ممارسة هذا الفعل بعيدا عن أي ضغط أو تدخل خارجي، باعتباره اختيار شخصي لا يقبل ثنائية الأمر والنهي، يعبر عن وجود الذات ويعكس ممارستها للذوق وعاملا لتطويره، وينبع الإقدام على فعل القراءة من حاجة الذات إلى فهم وضعية مشكلة ومعالجتها، والإقدار على حلها، وهذا ما يفضي وبصورة تدريجية الى ربط علاقة طبيعية وسليمة بالمعرفة وبالقراءة، بيد أن الطريق الى بناء هذا النوع من العلاقة تحفه صعوبات جمة ويحتاج الى جهد وصبر ، وقد أثبتت الدراسات أن الاطفال والتلاميذ الذين تضعف صلتهم بالقراءة يجدون عوائق كبيرة في معالجة الوضعيات التطبيقية والتكيف معها، بفعل نقص في الخبرة والتجربة الشخصية التي يغذيها فعل القراءة ويغنيها باستمرار، فالقراءة تنمي فكر الطفل بشكل مذهل ، ومن ثم نتساءل هل المدرسة المغربية تعلم الأطفال والتلاميذ القراءة وتمكنهم من أدواتها وآلياتها؟
إذا كانت وظيفة التعليم هو أن يساعدنا على التعلم ، فإن ما يعوز التلاميذ في الغالب الأعم هو قدرات التفكير من فهم واستيعاب وتحليل وتركيب ، فالاشتغال على النصوص والوثائق في الكتب المدرسية نادرا ما يرقى عن مستوى المعارف، وقلما يلج مستوى المهارات المحايثة لفعل القراءة من تحليل وتفسير ومقارنة واستنتاج وتركيب، وفي هذ الحالة نستطيع القول أن علاقة التعليم بالتعلم ليست سليمة إن لم نقل انها علاقة سلبية، طالما أن التعليم القائم على التلقين ونقل المعرفة الجاهزة قد يلحق ضررا بالتعلم، وقد انتقد “إيفان إليتش” Ivan illichفي كتابه “مجتمع بلا مدرسة” دور المدرسة واعتبرها أداة تطويع تجعل من الفرد كائنا بلا إرادة وبلا اختيار يقبل كل ما يعرض عليه بسلبية وعجز تامين، كون المدرسة تهدف بالدرجة الأولى إلى المحافظة على نفسها، ولو على حساب خدمات تعتقد أنها تؤديها لفائدة المجتمع ، وبذلك يبتعد التعليم عن دوره الطبيعي في الاشتغال على سلوك المتعلم من أجل تعديله بصورة إيجابية في اتجاه تقوية الرغبة في المعرفة والقراءة لدى التلميذ ودفعه الى ممارسة الإدراك والفهم والتفكير بعمق وبطريقة خاصة.
يبقى تعلم القراءة قمين بمدى تطوير تدريسية النصوص وفقا لتصورات نظرية ملائمة لتمكين التلاميذ فعلا من تقنيات وادوات القراءة ومن ثم خلق الرغبة في ممارستها والاستمرار في ذلك، ويقتضي مثل هذا الطموح التربوي الكبير مجهودا ضخما، ويحتاج الى توفير شروط مناسبة ومحددة منها تأهيل المدرسين، وتوفير العدة الديداكتيكية، واختيار الاستراتيجيات الملائمة، وخلق وضعيات تعلم حقيقية داخل الفصول الدراسية تتخذ شكل مجموعات ومهام بحث ينكب اشتغالها على النصوص، وفي مثل هذه الوضعيات يجد المتعلم ذاته ويعبر عن انخراطه ، وبالتدريج يتخلص من تمثلاته وتصوراته الأولية ويبني نماذج جديدة ، ويكتسب منهجيات وآليات القراءة والكتابة شيئا فشيئا. كما تكون هذه الوضعيات مناسبة يتحرك فيه التلميذ ليستثمر ويتبادل مع الآخرين ما يذخره من التجارب، ومقدار ما يملك من المعارف والمهارات، فيكتسب أفكارا جديدة تصحح خبراته السابقة وتوسعها، وهذا ما يجعل أفكاره حية متنقلة توفر له توازنا يتيح له إدراكا محددا وحيا لما هو جديد وأوسع من الخبرات.
على سبيل الختم ،فإن التطور المتسارع الذي عرفه العالم كمحصلة للتقدم التكنولوجي وتأثيراته على عالم الشغل والحياة اليومية، وتشعب أنماط التفكير، وتزايد التبعية المتبادلة وتطور الشبكات، وتغول علاقات اللاتكافؤ بين الدول، واكبه جيل جديد من القضايا والاكراهات التي باتت تسائل بشدة وظيفة المدرسة المغربية ومستقبلها، بالنظر الى التحول العميق الذي طرأ على صعيد العديد من التخصصات والمهن، وتنامي الطلب في سوق الشغل وغيرها، ما فرض الحاجة الى دعم وتطوير تنافسية نظامنا التربوي، لأن زمن المدرسة هو زمن المستقبل بالدرجة الأولى.
محمد الجيري – مفتش تربوي، نيابة تنغير