ملفات استعجالية تنتظر وزير التربية الوطنية والتكوين المهني الجديد.

ملفات استعجالية تنتظر وزير التربية الوطنية والتكوين المهني الجديد.

يأتي تعيين وزير التربية الوطنية والتكوين المهني الجديد في ظرفية دقيقة ومصيرية، وفي وقت أصبحت المسألة التربوية في مفترق الطرق. خصوصا بعد الانتقاد القاسي الذي أفرده الخطاب الملكي في 20 غشت 2013 لمنظومة التربية و التكوين، والذي أكد فيه جلالته على أنه ” لا ينبغي إقحام القطاع التربوي في الإطار السياسي المحض، ولا أن يخضع تدبيره للمزايدات أو الصراعات السياسوية. بل يجب وضعه في إطاره الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، غايته تكوين وتأهيل الموارد البشرية، للاندماج في دينامية التنمية، وذلك من خلال اعتماد نظام تربوي ناجع”.
كما يتزامن تعيين الوزير الجديد مع بداية الدخول المدرسي الأول بعد انتهاء البرنامج الإستعجالي (2009/2012) الذي تضمنت مشاريعه انتظارت وتطلعات وأمال كبرى. و رافق تنزيله صعوبات وإكراهات و إخفاقات متعددة.
وتأسيسا على ذلك، فوزير التربية الوطنية الحالي، باعتباره صانع القرار التربوي والمسئول الأول على منظومة التربية و التكوين، تنتظره ملفات شائكة وقرارات أنية و مستعجلة.
فما هي يا ترى أهم الأولويات التي سترسمها القيادة الجديدة لملامح إصلاح منظومة التربية والتكوين؟ وما نوع الاختيارات الإستراتيجية التي ستعتمدها السلطات التربوية الجديدة ؟ وما هي أهم الملفات الحارقة التي تنتظر حسم الوزير الجديد ؟ وهل سيتمكن صانع القرار التربوي المعين مؤخرا من وضع قطار الإصلاح التربوي على سكته الصحيحة؟
1 – التنزيل السليم للمرجعيات الرسمية:
لن ينجح قطار إصلاح منظومة التربوية والتكوين في الانطلاق إلا من خلال التنزيل السليم للمرجعيات وللتوجهات الرسمية والتي على رأسها الدستور الجديد للمملكة الذي ينص على أن التعليم الأساسي حق للطفل وواجب على الأسرة والدولة (الفصل 32) .
بالإضافة إلى ضرورة العمل على تفعيل مضامين الخطاب الملكي ل 20 غشت 2012 الذي حدد المرامي الأساسية للمنظومة التربوية المستقبلية، و التي تتمثل بالأساس في: ضمان الولوج العادل و المنصف إلى المدرسة و الجامعة، والحق في الاستفادة من تعليم جيد وملائم لمتطلبات الحياة، و كذا ضرورة تطوير الملكات و الكفايات لدى المتعلمين و استثمار طاقاتهم الإبداعية.
إلى جانب الحرص على أجرأة التوجيهات السامية الواردة في الخطاب الملكي الأخير ل 20 غشت 2013 الذي اعتبر من لدن الفاعلين والمهتمين و المتتبعين للشأن التربوي كخارطة طريق وطنية لإصلاح منظومة التربية والتكوين .والذي أكد فيه جلالته على أن واقع التربية والتكوين ببلادنا “يقتضي إجراء وقفة موضوعية مع الذات، لتقييم المنجزات، وتحديد مكامن الضعف والاختلالات”.
زيادة على ذلك، فالرجوع إلى الميثاق الوطني للتربية والتكوين أصبح ضرورة ملحة، باعتباره أهم وثيقة لإصلاح منظومة التربية و التكوين، ولكونه يعتبر دستورا تربويا بامتياز، أجمع وتوافق عليها مختلف الفاعلين والفرقاء والمتدخلين والمهتمين بالمجال التربوي ببلادنا، والتي تم الحسم من خلاله في المرتكزات الثابتة والغايات الكبرى لنظام التربية والتكوين.
2 – الإفتحاص النهائي للبرنامج الإستعجالي:
على الرغم من بعض إيجابيات البرنامج الإستعجالي (2009/2012) نتيجة ما تحقق في السنين الأخيرة من نتائج مرضية في بعض المجالات كتعميم التعليم و العرض المدرسي ( تحسن في نسب التمدرس، تأهيل و إصلاح مجموعة من المؤسسات التعليمية، توسيع الاستفادة من عمليات الدعم الاجتماعي، استعمال تكنولوجيا الإعلام و التواصل…) فمعظم الأهداف المبرمجة لم تكن محددة بدقة ، كما أن تنفيذ البرنامج الإستعجالي لم يخضع لمنطق الأولويات، حيث تم تنزيل كل مشاريعه ( 26 مشروع) دفعة واحدة، مما أدى إلى تشتت المجهودات و تبديد الموارد المالية و البشرية و تضييع الجهود والطاقات.
وعلى هذا الأساس ، وتنفيذا لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة الذي يقره الدستور الجديد للمملكة (الفصل الأول والفصل 154)، يتعين على السلطات التربوية الحالية إنجاح عملية الإفتحاص النهائي للبرنامج الإستعجالي، والتي تروم تقييم النتائج المحققة والوقوف على الحصيلة النهائية من خلال رصد نقط القوة وتثمينها و ترصيدها ، والتركيز على نقط الضعف من أجل معالجتها و الاشتغال على تجاوزها، في أفق وضع استراتيجية متكاملة وبلورة تصور مستقبلي جديد، يصب في اتجاه مواصلة مسلسل إصلاح منظومة التربية و التكوين.
3 – نهج المقاربة التشاركية.
نقصد باعتماد المقاربة التشاركية تلك المقاربة التصاعدية التي تنطلق من الفصل الدراسي ومن المؤسسة التعليمية، باعتبارهما مركز العملية التعليمية التعلمية، والقلب النابض للعملية التربوية، والمنطلق الأساسي لبناء المشروع المستقبلي للإصلاح التربوي، من جهة. وتعمل من جهة أخرى، على الإشراك الفعال لكل المعنيين و المتدخلين والشركاء في الحقل التربوي (تلاميذ، مدرسون، إدارة تربوية، أطر المراقبة و التأطير التربوي ، آباء وأمهات، فاعلون ومتدخلون ،شركاء، نقابات تعليمية، قطاعات حكومية وجمعيات ذات الصلة بالتربية و التكوين، خبراء و أكاديميون …).
فوزارة التربية الوطنية والتكوين المهني مدعوة أكثر من أي وقت مضى إلى تنويع آليات التشاور والمشاركة والتشارك لكل الفاعلين و المتدخلين و المعنيين و الشركاء أفقيا وعموديا – والتي بدورها منصوص عليها في الدستور الجديد (الفصول 12- 13-14) ” إشراك مختلف الفاعلين الاجتماعيين، في إعداد السياسات العمومية وتفعيلها وتنفيذها وتقييمها.”
وإلا ستكرر السلطات التربوية الحالية نفس الخطأ الذي وقعت فيه وزارة التربية الوطنية إبان بلورة البرنامج الإستعجالي، و الذي تم إعداده مركزيا وتنزيله تنزيلا فوقيا وبقرارات فردية وأحادية، في غياب تام لإشراك مختلف الفاعلين والمتدخلين و الشركاء.
4 – الحسم في الإشكاليات الأفقية لمنظومة التربوية والتكوين:
إن نجاح الإصلاح التربوي المنشود لن يتحقق إلا بالحسم النهائي في الإشكاليات الأفقية لمنظومة التربوية والتكوينّ المتمثلة بالأساس في:
– ترسيخ ممارسة الحكامة الجيدة: باعتبارها أداة لضبط و توجيه و تدبير المخططات الإستراتيجية الكبرى لمنظومة التربية و التكوين . ولكونها كذلك مقاربة حديثة في التدبير تنشد حسن التنظيم و توزيع المسؤوليات وتعزيز القدرات و دعم التواصل داخليا و خارجيا من خلال اعتمادها على ترسيخ مجموعة من المبادئ من بينها: الشفافية، الحق في إيصال المعلومات الملائمة و الولوج إليها، ضمان حقوق وواجبات كافة الفاعلين و المتدخلين في صناعة القرار التربوي وربط مسؤوليات المدبرين بالمحاسبة و المساءلة .
– التسريع في إرساء اللامركزية واللاتركيز: عبر توسيع اختصاصات الأكاديميات الجهوية للتربية و التكوين ومنح صلاحيات إضافية لمجالسها الإدارية، انسجما مع تنزيل ورش الجهوية الموسعة في قطاع التربية و التكوين. بالإضافة إلى ضرورة منح استقلالية أوسع للمؤسسات التعليمية، وذلك من أجل الارتقاء بتدبيرها في أفق تطوير الحكامة المحلية. وأيضا، توسيع هامش المبادرة لرؤساء المؤسسات التعليمية والعمل على إسهام الشركاء الاجتماعيين والأسر والجماعات المحلية والسلطات الإقليمية و المحلية في الشأن التربوي المحلي.
– تحسين جودة التعليم: عن طريق اختيار مقاربات بيداغوجية ملائمة لتحسين جودة التعلمات، وإرساء برامج ومناهج جديدة، وتنويع وتقوية آليات التخطيط والتقويم والتوجيه، و تفعيل الحياة المدرسية و تطوير استعمال تقنيات الإعلام والتواصل.
– الحسم في لغة التدريس: من خلال التوافق مع كافة الفاعلين والمتدخلين والمعنيين بالشأن التربوي حول الخيار اللغوي الإستراتيجي الذي سيتم اعتماده في منظومة التربية و التكوين (اللغة الأم أم اللغة الوطنية أم اللغة الأجنبية).
5 – معالجة القضايا التربوية الإستعجالية:
لمعالجة الإختلالات الآنية التي يشكو منها قطاع التربية و التكوين، على السلطات التربوية الحالية اتخاذ مجموعة من القرارات الملحة، ويتعلق الأمر ب:
– ترسيخ الجانب القيمي بمنظومة التربية و التكوين: من خلال تشجيع التربية على المواطنة و حقوق الإنسان وترسيخ ثقافة الحق و الواجب. وكذا العمل على محاربة الظواهر المشينة داخل المؤسسات التعليمية ( الغش، العنف، المخدرات…(
– التصدي لصعوبات وإكراهات التعليم بالوسط القروي: عبرالتقليص من عدد الأقسام المشتركة و الحرص على الحد من عدد المستويات فيها في أفق ألا تتجاوز مستويين على الأكثر. والعمل على توفير البنية التحتية الأساسية بالمجموعات المدرسية. ناهيك عن أهمية توفير الدعم الاجتماعي بالنسبة للتلاميذ المعوزين، و تفعيل التعويض عن المناطق النائية والصعبة بالنسبة للعاملين بهذا الوسط . وعلاوة على ذلك، يبقى تفعيل خيار المدرسة الجماعاتية الحل الأمثل لتجاوز هذا الكم الهائل من الصعوبات و الإكراهات التي يتخبط فيها التعليم بالوسط القروي .
– الحد من ظاهرة الهدر المدرسي: من خلال الحرص على تقليص نسبة التكرار و نسب الانقطاع المدرسي وتفعيل الدعم التربوي و الاجتماعي للتلاميذ المتعثرين .
– محاربة الاكتظاظ: عبرتوسيع الطاقة الاستيعابية للمؤسسات التعليمية وترشيد وعقلنة استعمال الحجرات والموارد البشرية المتوفرة .
6- إعادة الاعتبار لنساء ورجال التعليم:
يشكل العنصر البشري حجر الزاوية لنجاح أي إصلاح لمنظومة التربية و التكوين . فتعبئة رجال ونساء التعليم وإشراكهم في جميع مراحل العملية الإصلاحية (البلورة، الإعداد، التنفيذ، التقييم) هو صمام الأمان لضمان انخراطهم ومشاركتهم ومساهمتهم الفعالة في مجهودات الإصلاح. ولن يتأتى ذلك إلا عبر الاستماع إلى همومهم و انشغالاتهم والعمل على حل مشاكلهم، وكذا إعادة الاعتبار لهم و تحفيزهم ماديا ومعنويا .
7- تحيين الإطار القانوني والتشريعي و المؤسساتي الذي يؤطر منظومة التربية والتكوين:
ويتجلى ذلك من خلال العمل على إعداد الدليل المرجعي للوظائف والكفاءات الخاص بموظفي قطاع التربية و التعليم، باعتباره الأداة المرجعية لتحديد المهام والاختصاصات، والذي يهم جميع مراحل تدبير الموارد البشرية (توصيف الوظائف، تخطيط الموارد البشرية، عملية الانتقاء، مرحلة التكوين الأساس، التعيين ،التقييم، الترقية …) .
بالإضافة إلى ضرورة الإسراع بمراجعة النظام الأساسي لموظفي وزارة التربية الوطنية بكافة فئاتهم، عن طريق إصدار نظام أساسي منصف وعادل يلبي حاجياتهم و انتظاراتهم ، ويحدد بكل دقة المهام و الاختصاصات والواجبات و الحقوق.
ناهيك على ملحاحية إعادة النظر في الهيكلة الجديدة لوزارة التربية الوطنية أفقيا وعموديا وعلى جميع مستويات صناعة القرار التربوي ( مركزيا، جهويا، إقليميا ومحليا).
وإجمالا، فكل سياسة تعليمية أو إصلاح تربوي لا ينطلق من الفصل ومن المؤسسة التعليمية، ولا يستحضر المعنيين المباشرين (التلميذ و الأستاذ) ولا يأخذ بعين الاعتبار الفاعلين الأساسيين الآخرين (إدارة تربوية، أطر المراقبة و التأطير التربوي، آباء وأمهات، فاعلون ومتدخلون ،شركاء، نقابات تعليمية، جمعيات، قطاعات حكومية ذات الصلة بالتربية و التكوين… ) سيكون مصيره ولا شك الفشل.
وبكلمة، فإن نجاح وزير التربية الوطنية والتكوين المهني الجديد في مهمته رهين من جهة ، بمدى التنزيل و الأجرأة السليمة للتوجهات الرسمية (الدستور الجديد للمملكة، الخطاب الملكي السامي ل 20 غشت 2013، الميثاق الوطني للتربية و التكوين) والتي تعتبر بمثابة المنطلقات والمرجعيات الأساسية للإصلاح. و من جهة أخرى، مرتبط كذلك بضرورة مراجعة المقاربات المعتمدة في تنزيل الإصلاحات التربوية السابقة (المركزية، الفوقية و الأحادية) من خلال الحرص على نهج مقاربة وطنية تشاركية واسعة في معالجة الإشكاليات التربوية الكبرى، تعتمد أساسا على التعبئة المجتمعية والإشراك و التشارك الحقيقي لكل الفاعلين و المتدخلين والشركاء في منظومة التربية و التكوين.

مفتش التخطيط التربوي