كيف أسس جدي الأول بلاد المغرب !

الحسين النبيلي10 يناير 2018
كيف أسس جدي الأول بلاد المغرب !
حميد زيد

كان جدي الأول صديقا حميما لنوح، فاختاره من بين من اختار ليركب معه في سفينته، فنجا بأعجوبة من الطوفان، وكان برفقته في رحلته البحرية غيلم وحرمه المصون سلحفاة، ونمر واحد مع زوجته السيدة نمرة، ونملة ذكر ونملة أنثى، وقرد وقردة كانا يتسافدان بوقاحة ودون حياء أمام باقي أزواج الهوام والحشرات والحيوانات، فخجل جدي من ذلك وأغمض عينيه كي لا يرى الفاحشة، إلى أن رست السفينة في بابل، وصعد مع من صعد إلى البرج ليلمسوا سقف السماء، فعاقب الله الجميع وبلبل لغتهم، فتفرقت الألسن، ليستقر جدي في اليمن. ولما أصابت هذا البلد جائحة خرج أبي مع جدتي وباقي الأسرة، يتبعهم كلبنا وحمارنا وخروفنا، فمروا من الشام عن طريق الحبشة ومصر، إلى أن وصلوا إلى المغرب، وفي جبال الأطلس استوطنوا الكهوف والمغاور.

كان جدي رحمه الله عربيا قحا، وقد سرق قطاع الطرق لغته في الصحراء، وضاعت منا العربية التي كان يخبئها في جراب كبير، فمكثنا لعقود طويلة بدون كلام نبربر ونبلبل، إلى أن أتت جدنا فكرة وقال للعائلة الكبيرة التي أنجبها تعالوا نبربر ونجعل من هذا لغتنا القومية، حتى يأتي فاعل خير ويعيد لنا ما فقدناه.

وبالفعل صرنا نتكلم من جديد بعد أن فقدنا لساننا، وقال جدي علينا الآن أن نأكل، فحرث أرضا وزرع حنطة وعنبا، حتى شبعنا وسكرنا، ثم مر يهود طيبون يلهثون بعد أن طردهم فرعون، واستقروا بالقرب منا، وأطعمناهم ومنحناهم لغتنا التي صنعناها بصدى الجبال وبصوت الريح، ثم جاءت أقوام أخرى، روم وفينيقيون ومجوس، فأصبحت لنا قرية ومدينة، وقلنا لنبن عاصمة ودولة ولنعين قائدا، وفي الوقت الذي كنا فيه منشغلين بهذه الأمور، سمعنا قعقعة سيوف وحوافر خيل تضرب الأرض بشدة وأصواتا تصرخ الله أكبر الله أكبر، فأرسل جدي ذريته ليستطلعوا الأمر وعادوا ومعهم أعراب بعمائم على رؤوسهم، فناموا عندنا وأكلوا وزوجناهم بناتنا، وساعدونا مقابل ذلك على استرجاع لغتنا.

عاش جدي الأول مئات السنين وكان آخر فرد من قوم العماليق، وأنجب جدي الثاني الذي عاش إلى أن زارنا الفرنسيون يحملون معهم أسلحة نارية وآلات تمشي بعجلات وثعابين حديدية يخرج منها بخار وتصفر على طول الطريق، فقرر أن يقاوم هذه الآلات وأصحابها ورفض أن يركب فيها مع الراكبين، واحتفظ بدابته التي كانت وسيلة نقله الوحيدة إلى أن ماتت، قبل أن يأتي أحفاده ليمتطوا الترامواي والدراجات النارية والسيارات ضدا على وصيته، وكانت هذه أول لعنة تصيب العائلة.

حين توفي جدي بكينا كما لم يبك أحد وخرجنا في جنازته، وبمجرد دفنه أخذ كل منا أولاده وتفرقنا في الأرض، واختار أبي أن يذهب إلى فكيك، وهناك اكتشفنا لغة أخرى، قيل لنا إنها نفسها التي كنا نتكلمها لحظة سقوط جدنا من سلالم بابل، وأخبرتنا القوافل أن باقي الأسرة منتشرة في دكالة وعبدة والصحراء، فتلخبطت هويتنا وأصبحنا مغاربة، تجري فينا دماء كثيرة، في كل واحد منا يوجد عربي وأمازيغي وأجناس ولغات أخرى، وبين الفينة والأخرى يظهر فرد منا أو جماعة يقولون إن أصلهم نقي وخالص، فنضحك في عبنا، لأنهم لم يسمعوا هذه الحكاية التي أرويها لكم الآن، والتي وجدتها في صرة كانت تخبئها جدتي في صندوق خشبي، وتضم كتابا دون عليه جدنا الأول رحلته الطويلة التي انطلقت مع صديقه نوح عليه السلام في السفينة المعروفة.

مرت آلاف السنين، وفي إحدى الليالي الممطرة والباردة ، ولكي يشعرا بالدفء نام أبي مع أمي في سريرهما وخرجت منهما في مدينة الدار البيضاء، فرضعت من ثدي الوالدة إلى أن اشتد عودي، ولما كبرت فقدت لغتي مرة أخرى، واكتشفت مع الوقت أني لم أعد أمازيغيا، أتحدث بدارجة خشنة مثل أي بيضاوي أصيل، يطربني الصنهاجي ولا أتمالك نفسي وأنا أرقص، إلى أن جاء الدستور الجديد، وذكرت الصحافة أن المغربي له هوية متعددة ومنفتحة وأنه ليس عربيا فقط، ثم رأيت بعد ذلك الفنانة فاطمة تابعمرانت تدخل إلى البرلمان وتتحدث بلغة جدنا الذي أخبرنا في كتابه عن الطريقة التي صنعها بها بعد أن اعترض طريقه قطاع الطرق وسرقوا لسانه.

ولأني سليل أسرة أسطورية، ولأن جدي كان يعرف سيدنا نوحا شخصيا وقدم له يد العون في جلب خشب السفينة، ولأني وريثه الذي مازال على قيد الحياة، فقد قررت أن أنجز الفصل الأخير في كتابه وأتمم عمله، وأخبركم أني اكتشفت رافدا جديدا من روافد هويتنا، وذلك حين دخلت قبل أيام إلى علبة ليلية، ووجدت البنات يتكلمون بالخليجية ويرقصون على ألحانها ويحفظون كل أغانيها، فقلت مع نفسي، إنهن بنات عمومتي، وهذا رافد جديد أغفلته لجنة المنوني، فضممتهن إلي ورقصت معهن، ورحبت بهن يا هلا يا هلا بأهلي وعشريتي، وغنيت “الأماكن” وحركت يدي وطرقعت أصابعي كما يفعلن وأنا أدندن “قلب قلب وين وين غايب علي يومين”، وبعد أن جلست معهن وتجاذبنا أطراف الحديث علمت منهن أن جدي فقدهن مع من فقد في ذات الجراب، وقلت: ياه، كم هي الدنيا عجيبة، فبعد أن تفرق شملنا، ها نحن نلتم ثانية، ونترحم على جدنا الذي تحمل من أجلنا كل تلك المشاق.