معلمون أم ..عابرو سبيل ؟

حميد بن خبيش11 يونيو 2013
معلمون أم ..عابرو سبيل ؟

يضج المشهد التعليمي اليوم بالعديد من صور ازدراء المهنة و المشرف عليها , و التهكم الصريح و المضمر على بُعدها الرسالي . ولعل هذا الازدراء يغذي في العمق سائر الاحتجاجات التي تخوضها أسرة التعليم , كما يُؤثث الفضاء المناسب لتنامي أشكال العنف التربوي و تبخيس الدور المنوط بالذي أوشك أن يكون رسولا !
ترتب عن هذا الازدراء نفور متزايد في الوسط التعليمي من مواصلة النهوض بأعباء الرسالة , و سعي حثيث خلف بدائل أخرى للقمة العيش . ولم يعد خفيا اليوم أن التعليم أصبح واحة وظيفية يترقب الكثير من المنتسبين إليها فرصة لتغيير الإطار أو العثور على عمل في الضفة الأخرى .
أما فئة ثانية فاجتهدت في صوغ الأعذار المختلفة لتبرير التهرب من أداء الواجب , و تفضيل الاستجمام المؤدى عنه !
لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو : هل يتحمل المعلم وحده وزر تردي المشهد التعليمي ؟ وهل يليق بمن ينصبون له المشانق اليوم أن يُغمضوا الطرف عن تورط بقية المتدخلين ؟
أليست التربية مسؤولية الجميع , أم أن الشعارات الرنانة تتوارى حين تلوح في الأفق سحائب الفشل؟
الحقيقة أن امتهان المجتمع للمعلم سلوك يضرب بجذوره في عمق التاريخ , إذ يُؤكد آدم ميتز في كتابه ” العالم الإسلامي في القرن الرابع الهجري ” أن المعلمين كانوا من جملة الشخصيات المضحكة في المسرحيات اليونانية . ثم انتقلت العدوى إلى بلاد المسلمين خلال عصر الترجمة , فشاعت الأمثال والنوادر التي تستخف بأدائهم , و علاقتهم بالصبيان حتى قيل : إذا كان أحد معلم صبيان أو معلم كُتاب فمعنى هذا عيش مُر و حرفة مُحتقرة ! بل يذهب ابن حوقل إلى أن المعلمين اشتهروا بنقص عقولهم و خفة أدمغتهم , وأنهم ما لجأوا إلى هذه الصناعة إلا هربا من الجهاد و نكولا عن الحرب (1) .
غيرأن الصورة اليوم بلغت حدا من الإسفاف الذي يُخل بالوضع الاعتباري للمعلم , مما يُزكي موقف “عابري السبيل” الذين لاهم لهم إلا الخروج من قفص الاتهام , و التخلص من عبء النهوض بواجب يلقون فيه كل ضروب السخرية و العنت. فبالإضافة إلى التوتر الدائم في العلاقة مع الوزارة الوصية , هناك الإعلام الذي يميل بطبعه إلى التهويل من شأن بعض الحوادث و القضايا الفردية ليُحاكم من خلالها المنظومة ككل. وهناك أيضا احتدام التنافس النقابي وما يترتب عنه من إساءة بالغة للبٌعد الإنساني الذي تنهض عليه رسالة التعليم .
تضافرت هذه العناصر الثلاث لتغذية تمثلات المجتمع عن المعلم. فالذي كان حتى الأمس القريب مربيا حاملا للمعرفة و صائنا للقيم , أضحى اليوم كائنا متذمرا , كثير الشكوى و الاحتجاج , ميالا للدعة و الراحة ! و بالتالي تهيأت الفرصة لمن أراد أن يُحمله كل الخسائر الناجمة عن سوء تدبير القطاع .
و بما أن لكل فعل رد فعل مساو له في القوة و مضاد له في الاتجاه , فإن اتساع دائرة عابري السبيل يُمثل في الحقيقة تعبيرا عن رفض الامتهان الذي يلحقه , وعن حيرته أمام ما يتولد من تناقض بين واجب الممارسة وواقعها .فالتعليم , كما يؤكد الباحث عزيز لزرق , أصبح مجالا تتجسد فيه سلطة القرار , و إلغاء فعالية الممارسين , و النظر إليهم كجنود عليها أن تنفذ لا أن تفكر , و إطارا للعقاب يُحرم فيه الممارس مما يتمتع به سواه من الموظفين , وبالتالي إنها أزمة الوضعية , ناهيك عن أزمة التكوين ومدى استمراره . لهذا أصبحت الرغبة في التعليم و الجدية في التحصيل و التدريس مثار سخرية, و علامة على السذاجة , ونعتا طوباويا وفقرا في الواقعية . و بالتالي أصبح التعليم نموذجا للضياع و الهدر في المجهود و في الزمن (2) .
في ظل التناقض الحاصل إذن بين الأداء التعليمي المقيد بجملة من الشروط التنظيمية, وبين البعد الرسالي كما يتصوره المجتمع , يصعب تحقيق الرضا الوظيفي الذي يعد مدخلا أساسيا لتحقيق الجودة الشاملة في نوعية التعليم . وهو ما يدفع “عابري السبيل” إلى إبداء حياد سلبي تجاه مشاريع تحديث و تطوير المنظومة التربوية (3)
وكما أوردنا سالفا فإن الإعلام يُسهم بدوره في تغذية أشكال النفور من مواصلة الأداء التعليمي , وذلك عندما يُعيد تشكيل الرؤى و القناعات بحيث تصبح المؤسسة التعليمية جزءا من المشكلة بدل أن تكون جزءا من الحل .
إن من المفارق حقا أن يجنح الإعلام إلى قصف العقول يوميا بالآلاف من مشاهد العري و الانحلال و العنف , ثم يُحمل المدرسة وزر تفشي الانحرافات السلوكية في المجتمع .
ومن المفارق كذلك أن يتم ربط التعليم بسوق الشغل , وبالصراع من أجل البقاء في عالم متوحش , ثم تتعالى الأصوات منددة بالانحدار الأخلاقي , ومسؤولية المعلم عن تراجع منظومة القيم في المجتمع .
ومن المفارق أيضا أن تعلن الأنظمة التعليمية استجابتها لمطلب مواجهة تحديات العولمة , ثم تتبنى منظورا تقنيا و إحصائيا محضا في مقاربتها للمشاكل , و أجرأتها للحلول . في حين أن أخطر ما ينطوي عليه نظام العولمة هو التأثير السلبي على بناء الفرد و تشكيل الهوية .

إن الرهان على معلم اليوم لبناء إنسان الغد سيظل رهانا خاسرا مالم يُبادر المجتمع بمختلف مؤسساته و فعالياته إلى إحلال المعلم مكانته الاجتماعية اللائقة به , ومالم تبادر السلطة التربوية إلى تحرير قدراته و توسيع هامش حريته في إدارة العملية التعليمية .
إنها الخطوة الأولى التي تعيد تشكيل القناعات بغد أفضل , وتستعيد الثقة في المدرسة العمومية كرافعة للتنمية و قاعدة لبناء المستقبل .