د. /علي عمّار
جامعة تلمسان
لا يمكن فصل لغتنا عن تاريخ امتنا ، لأن تاريخ امتنا لم يعد محصورا في صحراء الجزيرة وعوالي هوزان أو أدوية تميم ، فقد أثبتت النقوش والآثار والحفريات الحديثة عن حقبة تاريخية تعود إلى الألف الرابع قبل الميلاد، كما كشف علم اللغات المقارن عن علاقات لغوية لعربيتنا الفصحى تمتد إلى العراق والشام ومصر والحبشة وفارس ، وقد كان القدماء على حق حينما قسموا العرب إلى بائدة وعاربة ومستعربة. ذلك أن الدراسات الحديثة تشير إلى العلاقات السامية التي كانت تعم منطقة الشرق الأوسط والتي كانت تمثل حضارة واحدة ، ولغات متقاربة وشرائع ومجتمعات وديانات وفنون… لا يختلف بعضها عن البعض إلا في ملامح قليلة.
ثم تميزت الحضارة العربية الجنوبية التي ازدهرت بما يزيد عن ألفي عام (2000 ق.م) القرن الأول الميلادي ، ثم أخذت بعدها في الاضمحلال تدريجيا لتحل محلها حضارة أهل الشمال من أنباط وتدمريين وغساسنة ومناذرة وقرشيين.
ومراحل لغتنا تمثل هذه الأطوار التاريخية لأمتنا ، فقد كانت واحدة من اللهجات السامية السائدة في المنطقة إبان سيادة الحضارة السامية ، ثم استقلت العربية الجنوبية مبرزة خصائصها التي أبعدتها قليلا أو كثيرا عن السامية الشمالية (أشورية وبابلية وآرامية وفينيقية وعبرية…) حتى إذا أذن نجم الدول العربية الجنوبية بالأقوال ، ولاح في الأفاق بزوغ نجم عرب الشمال بدأت العربية الشمالية تزاحم العربية الجنوبية وتزحزحها عن مكانتها في شبه الجزيرة العربية إلى أن تبلورت الفصحى وانفردت بخصائص عن العربية الجنوبية.
ومرة أخرى فقد أصاب القدماء حينما ذكروا أن العرب البائدة وهم (المعينيون والحضرميون والقتيانيون والاسيانيون…) لقنوا لغتهم إلى العرب العاربة (عرب الجنوب) من سبأ وحمير ، وهؤلاء علموها إلى العرب المستعربة (عرب الشمال). فقد أثبتت الدراسات اللغوية الحديثة أن هناك علاقات عديدة بين لغات الساميين ولغة عرب الجنوب ، كما أثبتت أيضا أن لغة عرب الشمال (الفصحى) لا تبتعد كثيرا في خصائصها العامة ومفرداتها عن لغة عرب الجنوب.
وفي دراستنا هذه سوف نركز اهتمامنا على هذه الصلات بما يكفي من الإيجاز لنبين الروافد التي ساهمت في تغذية لغتنا ، والمراحل التي مرت بها حتى وصلت إلى الصورة التي نجدها في القرآن الكريم والشعر الجاهلي.
العربية الفصحى واللغات السامية (الحامية) :
تشترك اللغة العربية مع عائلة اللغات السامية –الحامية (1) في كثير من الخصائص لأن منطقة جنوب غرب آسيا وسواحل إفريقيا وشمالها تكون بيئة جغرافية واحدة ، تتميز بغلبة المناطق الصحراوية عليها. ويذهب د. رالف لينتون : إلى أن سكان هذه المنطقة تكلموا لغات ذات صلة بعضها ببعض ، وهي الأصول التي جاءت منها اللغة الأسيوية الإفريقية فيما بعد (2) وفي رأيه أن اللغات والحضارات تتجه نحو التوحد كلما كانت العقبات الطبيعية قليلة ، ومن هنا جاء التشابه في اللغة والحضارة بين سكان مناطق جنوب غرب آسيا (الجزيرة العربية والعراق والشام) وبين سكان سواحل شرق وشمال إفريقيا. فالعلاقات الطبيعية بين تضاريس هذه المنطقة والعلاقات اللغوية والحضارية التي انبثقت عنها ، تطالعنا على أقدم الخصائص التي اكتسبتها لغتنا ، حين كانت تجتاز مرحلة ” حضارة الصيد ” وهناك العديد من أوجه التشابه بين قواعد ” اللغات السامية وقواعد اللغات الحامية (3) ولعل اللغة المصرية القديمة تقدم كخير دليل على هذا التشابه القوي بين اللغات السامية والحامية (4) حتى ذهب بعضهم إلى اعتبار المصرية القديمة لغة سامية.
ويعزو الدكتور رمسيس جرجس هذا التشابه اللغوي بين الساميات والحاميات إلى انحدار الساميين والحاميين من أرومة مشتركة ، موطنها بلاد العرب ، وتاريخها يعود إلى أكثر من عشرة ألاف سنة (5) أما المؤرخ الألماني ” ادوارد ماير ” فيرجع الأصل الحامي في شمال إفريقيا ووادي النيل والصومال إلى سلالات قوقازية ، عبرت مضيق جبل طارق ، ومنه ساحت في مناطق شمال إفريقيا ووادي النيل حتى وصلت الحبشة ثم الصومال (6). وسواء أخذنا بالتفسير الجغرافي الذي قدمه لنا د. (رالف لينتون) سابقا ، أو اعتمدنا أحد هذين الاتجاهين الذين يعولان على الأعراق في تفسير التشابه بين اللغات السامية والحامية ، فإن الحقيقة اللغوية تظل ثابتة وواضحة ، وهي أن التشابه بين الأسرتين السامية والحامية كبير وأن الخصائص المشتركة بينهما عديدة.
العربية الفصحى واللغات السامية :
اجتاح الغزو السامي منطقة الهلال الخصيب وبلاد شرق وشمال إفريقيا الكره تلو الكره وترك الساميون طابعهم على منطقة الشرق الأوسط كلها (شبه الجزيرة العربية ، العراق ، الشام سيناء ، صحراء مصر الشرقية ، الحبشة) بداية من الألف الرابع ق.م (7) .
ولما كانت لغتنا العربية تنتمي إلى هذه الكدية السامية فإن معرفتنا لخصائص اللغات السامية إنما تعني بالضرورة اطلاعنا على بعض خصائص لغتنا في ذلك التاريخ البعيد.
ويوجز الدكتور إسرائيل ولفنسون الخصائص العامة للغات السامية فيردها إلى مواصفات ثلاث أساسية هي :
- اشتقاق الكلمات من أصول ثلاثية أو ثنائية.
- جعل الفعل هو الأصل الاشتقاقي الذي تصدر عند الكلمات (8) .
- العناية في الكتابة بالحروف الصامتة دون الصائتة.
واللغات السامية عموما – بما فيها العربية الفصحى – تتشابه والعديد من المفردات والضمائر والأعداد وأسماء الموصل وأسماء الإشارة وبعض الأسماء الدالة على القرابة (أب – أخ – أم) وكثير من الأفعال المستعملة في الحياة اليومية (9).
وليس للفعل في اللغات السامية سوى زمنين هما : ماض ومضارع يستخدم للزمن الحالي وللمستقبل وتؤنث الصفات والأسماء بإضافة تاء للتأنيث على المذكر ويلاحظ في اللغات السامية عامة أن الحروف الصامتة (Consonant) تحدد المعنى العام للكلمة وتقوم الحروف الصائتة (الحركات وحروف المد) بأحداث تغيرات في المعاني الفرعية (10).
الفصحى والعربية الجنوبية :
أقرب اللغات السامية إلى عربيتنا هي ” العربية الجنوبية ” فلغتنا العربية وليدة العربية الجنوبية وخصائص العربية الجنوبية هي خصائص الفصحى في مراحلها الغابرة ، ولهجات العربية الجنوبية ليست إلا صورا تاريخية للفصحى (11).
وتتشابه اللغتان في الضمائر وأسماء الإشارة وأسماء الموصول والأعداد والظروف وطائفة كبيرة من الأسماء والأفعال والمصادر كما تتشابه اللغتان في الأفراد والتثنية والجمع والتعريف والتذكير والتأنيث ، والتصغير والصفة التي تتبع الموصوف وحروف الجر والعطف والنفي (12).
ويذهب البعض إلى أن اليمن هي الموطن الأول الذي خرجت منه جميع الهجرات السامية ، وهي بذلك تعتبر مهد اللغات السامية جميعا (13). والقول بتباين اللغتين خطأ واضح أساسه إغفال العامل الزمني بين اللغتين ، ذلك أن اللغة الواحدة أحيانا يطرأ عليها من التطور والتبدل ما يجعلها بعيدة جدا عن جذورها الأولى ، فكيف تتباين اللغتان وقد نشأتا في بيئة واحدة لأمة واحدة ، توحد بين شعوبها الظروف السياسية والاجتماعية والدينية والعمرانية… ويلتقي شمالها وجنوبها في الأسواق والحواضر والأيام والهجرات والمتاجر… وغير ذلك من وشائج القرابة ودواعي الاتصال والتواصل.
الفصحى واللغات السامية في العراق والشام :
نعني باللغات السامية هي الأكدية (الاشورية والبابلية) في العراق ، والكنعانية (الفينيقية – العبرية الارامية) في الشام.
والتشابه بين هذه اللغات والعربية الفصحى لا يقل خطورة ووضوحا عن التشابه بين الفصحى والعربية الجنوبية ، ذلك أن ملامح الأعراب والتنوين والتثنية والجمع السالم بنوعيه موجود في الاكدية (14) مثل الفصحى تماما ، كما وجدت ظاهرة الأعراب والعديد من جموع التكسير في اللغة الاوجرتية (الفينيقية) وهي لغة يعود تاريخها إلى سنة 1400 ق.م. وقد ذهب ابن حزم إلى أن العربية الفصحى والسريانية والعبرانية لغة واحدة ، تغيرت بتغير مساكن أهلها (15) وهذا ما كشفت عنه الدراسات السامية المقارنة في العصر الحديث (16).
وفي هذا المجال يمكن أن نقدم جدولا بيانيا يوضح بعض أوجه التشابه بين الفصحى وأخواتها الساميات في العديد من الجوانب (17).
الكلمة | العربية الفصحى | السبئية المعينية | الاكدية (البابلية – الآشورية) | الآرامية | العبرية |
ضمير المتكلم ضمير المتكلمين ضمير الغائبين ضمير الغائبات اسم الإشارة اسم الإشارة المؤنثة اسم الإشارة للجمع العـــدد (6) سمـــاء شمــس د م | أنا نحن هم هن ذا ، هذا ذي ، هذه أولاء ، هؤلاء ست سمــاء شمــس د م | ana nahnu homu huna zan:s zat – سســو سمـاي شمـس د م | anaku aninu sinu sina suatu siati ulluti شــشو شـمــو شمـشو دمـــو | Ena Enahnan henoun henen hono hode holen شــــت شــيـــا شمشــا دمــــا | ani anahnu hema hen ze zot hahen شـــش شمايم شمــس د م |
الفصحى ولغة النفوس في شمال شبه الجزيرة العربية :
لقد عثر المنقبون في (الحجر) و(ديدان) شمالي الحجاز على مدينة لا يعرف عنها إلا الشيء القليل (18) ، وهي الأقوام من الشوديين واللحيانيين ، استوطنو شمال الحجاز، وتدل أثارهم على ملامح حضارة مزدهرة ، ولغة راقية وتطور كبير في الفن والعمران والزخرفة. كما عثر المنقبون قرب جبل الصفا (جنوب شرق دمشق) على نقوش كثيرة ، اصطلح على تسميتها بالنقوش الصفوية ، وفي النفوس الثمودية واللحيانية والصفوية تظهر بوادر اكتمال لغتنا العربية الشمالية فلغة هذه النقوش هي أقرب إلى العربية الفصحى منها إلى العربية الجنوبية ، وان كتبت بالخط المسند – الخط الذي كتبت به العربية الجنوبية.
وخط تلك النقوش والعديد من مميزاتها ومفرداتها توحي بأصلها العربي الجنوبي ، غير أن احتكاك شمال الحجاز بالشعوب السامية الشمالية جعل لغات تلك النقوش تبتعد قليلا أو كثيرا عن أصلها الجنوبي. ويعود تاريخ تلك النقوش جميعها إلى الفترة ما بين (400 ق.م) (400 م).
ومع أن المادة اللغوية في نقوش شمال شبه الجزيرة العربية غير كافية لتاريخ تطور العربية الفصحى ، فإنها على أية حال تمثل مرحلة قريبة من اكتمالها ونضجها. وهي في صيغها المختلفة وأسمائها وأفعالها وحروفها وأصواتها… لا تختلف كثيرا عن فصحانا من الأصوات – مثل الفصحى – ثمانية وعشرون صوتا صامتا (19) (Consonant) وفيها من حروف الجر : الباء واللام ، في ، من ، وفيها الواو والفاء للعطف ، لم للنفي وفيها لام الأمر وتاء التأنيث وياء النداء…
كما ورد فيها من الضمائر(أنا ana) ، ( آت – antti أنت)… والضمائر المتصلة الباقية تطابق ما في العربية الفصحى مع اختلافات بسيطة.
ومن أسماء الإشارة في نقوش شمال شبه الجزيرة العربية (ذا) للمذكر، (ذين) للمؤنث وهما يقابلان : (هذا ، هذه) في الفصحى. وأداة التعريف عندهم (ها) مثل العبرية. ومن أسماء الموصول (من) ، (ما) ، (ذو) الطائية (20) وفي تلك النقوش نجد وفرة من الأسماء والأفعال التي نعرفها في العربية الفصحى ، ففيها من الأفعال (علم) ، (حل) ، (بات) ، (رعى) ، (كتم) (عشق) ، (ندم) ، (لعن) ، (نهل) ، (سمع)…
وفيها من الإعلام : (احمد) ، (بدر) ، (وائل) ، (زيد) ، (حليم) ، (ظريف) ، (لبيد) (مروان) ، (نوفل)…
ومن أسماء الحيوانات : (جمل) ، (ناقة) ، (فرس) ، (أسد) ، (ضأن) ، (خيل)… ومن أوجه الشبه أيضا بين لغات تلك النقوش الفصحى : – التثنية ، والجمع بأنواعه ، والتصغير والنسب ، وصيغ العديد من الأسماء والأفعال (21)…
اثر اللغة الآمرية (الهند واوربية) في الفصحى :
بدأ الاجتياح الآري لمواطن الساميين حوالي سنة 500 ق.م حينما فرضت جيوش فورش وأحفاده سيطرتها على منطقة الشرق الأوسط. وكانت مملكة قورش – مؤسس الدولة الفارسية – تمتد أثناء وفاته سنة 538 ق.م من بحر ايجة غربا إلى هند كوش شرقا ، ومن بحر قزوين شمالا إلى صحراء العرب في الجنوب (22) .
ثم أعقب الفرس في المنطقة : اليونان – فالرومان ، ثم وقع شمال شبه الجزيرة العربية وشرقها وجنوبها اليمني تحت هذا التأثير الآري ، فتسرب إلى لغتنا في الجاهلية فيض من الألفاظ المعربة والدخيلة.
فمن الألفــاظ : إنجيل ، اسطوانة ، أسقف ، ناموس ، ميل ، إسفنج…
ومن الرومية : الفردوس (البستان) ، القسطاط (الميزان) ، السجن جل (المرآة) ، البطاقة (رقعة فيها رقم البضاعة) ، البطريق (القائد) ، الترياق (دواء للسم) ، النقرس (مرض) القنطرة…
ومن المغرب عن الفارسية نقتطف هذه الألفاظ :
جاموس ، سلحفاة ، رهوان (دابة مدربة) ، فيل سنديان ، توت ، طوخ ، بندق ، جوز، لوز، كعك
عجة ، كباب ، رشتة ، كشك ، جردق ، سراويل ، برنس ، طيلسان ، قز، خز، شاس… (23)
اثر النبطي – التدمري في العربية الفصحى :
لعل قيام الدولة القبطية في الطرف الشمالي الغربي من شبه الجزيرة العربية ساعد على احتكاك العرب بالشعوب السامية الشمالية ، ومن هنا تسربت إلى لغتهم وفرة من الألفاظ الآرامية فاللغة الآرامية أصبحت المعبر الرئيسي عن العقلية السامية منذ القرن السادس ق.م إلى أن اجتاحتها العربية الفصحى بعد ظهور الإسلام. ويرى الدكتور ولفنسون أن الحضارة الآرامية أثرت في الحضارة العربية وفي تكوين المادة اللغوية شمال شبه الجزيرة العربية بسبب انتشار الكتابة الآرامية واللغة الآرامية في شمال شبه الجزيرة (24).
وحين انهارت دولة الأنباط على أيدي الرومان سنة 106م قامت دولة ” تدمر” إلى الشمال منها على الخط التجاري الواصل بين العراق والشام ، أو بين الفرس شرقا والروم غربا ومن هنا كانت مدينة ” تدمر” مزاجا من العناصر الفارسية والرومانية واليونانية والآرامية (25).
أما لغة التدمريين فقوامها الآرامية والعربية الشمالية وأمشاج من اليونانية والرومانية، حتى لقد اثر ملكتهم زنوبيا أنها كانت تتكلم الآرامية والقبطية بالإضافة إلى الرومانية واليونانية (26). ويرجع كثير من المؤرخين أن مهام هاتين الدولتين كانوا من العرب رغم كتاباتهم بالآرامية وأعلام ملوكهم وألهتهم وكثير من مفردات لغتهم تفصح عن هويتهم العربية. فمن أعلام ملوكهم : – الحارث ، عبادة ، مالك ، جميلة… (27).
ومن أعلامهم الشائعين : جذيمة ، وائل ، كليب ، مغيرة ، قصي ، عدي ، عائذ ، عمرو معن ، وهب ، اللات ، علي ، حبيب ، سعيد ، هاجر، هاني ، عبد الملك ، سعد الله ، حميد.
ومن آلهتهم : ذو شرى (اله الشمس) اللات (اله القمر)، منوتن – مناة ، هبلو – هبل…
ويرى الدكتور السيد عبد العزيز سلام ” إن لغة الأنباط لهجة عربية شمالية ، فكثير من الكلمات الواردة في النقوش النبطية المكتشفة عربية خالصة… بل فقد لاحظنا في بعض النقوش أن عبارات بأكملها تكاد تكون عربية (28).
والحكم نفسه ينطبق على التدمريين الذين نسبهم معاصروهم من اليونان إلى العرب ، ولم يعتدوا بكتابتهم الآرامية ، لأنها كانت اللغة الرسمية لجميع شعوب المنطقة آنذاك (29).
اثر الغساسنة والمناذرة في العربية الفصحى :
لم ينقطع اتصال العربية الفصحى باللغات السامية الآرامية في أعقاب سقوط تدمر سنة 272 م. فقد نشأت دولة الغساسنة في الشام ودولة المناذرة في العراق. وبذلك استمرت الروافد الثقافية التي تغذى معجم العربية الفصحى وتتيح لها مزيدا من الاحتكاك والتطور والنضج.
ويذكر الدكتور فيليب : ان ” غسان ” تنصرت في الشام واتخذت الآرامية لغة لها ، إلا أنها لم تهجر لسانها العربي الأصلي بل إن أبناءها أصلحوا وكغيرهم في الهلال الخصيب مزدوجي اللغة (30).
وقد كان عرب الحيرة – مثل الغساسنة – يتكلمون العربية الشمالية في حاجاتهم اليومية وإذا كتبوا كتبوا بالسريانية.
غير أن العديد من الدارسين بالغوا في بيان أثر السريانية – إحدى اللهجات الآرامية – على العربية الفصحى ، وراحوا يرجعون الألفاظ المشتركة بين جميع اللغات السامية إلى أصول سريانية وقد نبه الدكتور إبراهيم السامرائي إلى هذا الخطأ المتعمد أحيانا ، فليس كل لفظ في السريانية دخيل على العربية أو مستمدا من السريانية بالضرورة ، اللهم إلا الألفاظ النصرانية التي لم تعرفها بقية اللغات السامية من قبل مثل : ملكوت ، جبروت ، لاهوت ، ناسوت…
وبعض الصيغ مثل : شاقول ، حاطوم ، ناطور… (31)
وهكذا أفادت العربية الفصحى من اللغات السامية في شمال شبه الجزيرة وجنوبها ، كما تسرب إليها غير قليل من الألفاظ الدخيلة والمعربة عن الفارسية واليونانية والرومانية ، فازدادت مرونة وحيوية وسعة ، وتطورت تطورا فاق أخواتها الساميات وامتد نفوذها قبيل الإسلام إلى أوساط سوريا والعراق وسيناء واليمن (32). لما عمت بلاد الشرق الأوسط بعد ظهور الإسلام في أعقاب الفتوحات الإسلامية.
مراحل اللغة العربية الفصحى :
على ضوء ذلك التطور البعيد الذي عرفته اللغة العربية الفصحى منذ فجر التاريخ إلى ظهور الإسلام ، يمكننا أن نقف على ثلاثة مراحل هي : (33).
المرحلة الأولى : (Pré – Arabie) حين كانت العربية الفصحى إحدى اللغات السامية – الحامية.
المرحلة الثانية : (Proto – Arabie) وتمثلها العربية الجنوبية اصدق تمثيل ، وهي المرحلة التي سادت فيها العربية الجنوبية شمال شبه الجزيرة العربية وجنوبها ، وكانت المعبر الوحيد عن الفكر العربي والثقافة العربية والحضارة العربية منذ الإلف الثاني ق.م.
المرحلة الثالثة : (Langage Arabie) حين أصبحت الفصحى لهجة خاصة بعرب الشمال ، وقد تميزت عن العربية الجنوبية في العديد من الخصائص اللغوية والمفردات ، بعد أن طورها وطوعها أمثال : الثموديين واللحيانيين والأنباط والتدمريين ، والغساسنة والمناذرة.
لغة قريش ومكانتها في شبه الجزيرة العربية :
ظهرت قريش حوالي القرن الخامس الميلادي لتمسك بزمام التجارة العربية بين شمال شبه الجزيرة العربية وجنوبها فأفادت لهجتها من الصلات الواسعة بقبائل شبه الجزيرة العربية وبالشعوب السامية والآرية المحيطة بأطراف شبه الجزيرة العربية. ونحن نعلم أن قريشا كانت تصل بتجارتها إلى الحبشة واليمن وفارس والشام (34) ، هذا إلى جانب إقامة جاليات حبشية وفارسية ورومية في مكة ولا ننسى أن أفراد من خيرة الصحابة هم من تلك البلاد ، فبلال حبشي وصهيب الرومي ، وسلمان الفارسي ، وعمار يمني ، ومارية زوجة الرسول عليه السلام قبطية…
ويقطن اليهود الناطقون بالعبرية على طريق تجار قريش شمالا وجنوبا في اليمن ويثرب وخيبر ووادي القرى ، كما أن نصارى نجران والحيرة وغسان كانوا يجيدون السريانية ، وهم عملاء قريش ، وليس غريبا أن يجيد عرب اليمن الفارسية والحبشية آنذاك بعد أن تناوبت الحبشة وفارس على اليمن منذ القرن الرابع الميلادي. وإلى اليمن كانت تتجه ركائب قريش شتاء وفي الأسواق القريبة من مكة : (حباشة)، (عكاظ)، (مجنة)، (ذو مجاز)، (بدر)، (خيبر)… كما في موسم الحج الأكبر (عرفة ، منى) كانت الفرصة مواتية لالتقاء قريش بالقبائل الوافدة من أطراف شبه الجزيرة العربية وأوساطها ، حيث كانت تعرض البضائع والمفاخر والأشعار…
وخلال هذا الاحتكاك الواسع كانت لغة قريش تزداد ثراء وتطورا وحيوية لأن قريشا كانت مضطرة أن تتعامل مع هؤلاء جميعا وأن تحدثهم بألسنتهم ولهجاتهم أحيانا ، شأن التجار في كل زمكانية.
ومن هذا المزيج المتنوع تخيرت قريش من الأصوات والمفردات والتراكيب ما يلائم مزاجها وذوقها فكانت لغة القرآن الكريم ، ولغة الحديث النبوي الشريف ، ولغة الشعر الجاهلي وأمثال الجاهلية وحكمها ، فتبلورت اللغة الأدبية التي سادت شبه الجزيرة العربية منذ القرن الخامس الميلادي. وبسبب ذوق القرشيين الراقي ومكانتهم السامية ، كان العرب والشعراء والخطباء يحتكمون إليهم ، فما قبلته قريش من الشعر اخذ فكتب وعلق على جدران الكعبة ، وما رفضته أهمل.
لغة القرآن الكريم نموذجا صادقا للعربية الفصحى :
لقد نزل القرآن الكريم بلغة قريش فكان النموذج الأمثل لما وصلت إليه اللغة العربية الفصحى من تطور ورقي ومرونة وسعة ودقة في التركيب النحوي وتوسع في الصيغ الصرفية والأصوات اللغوية.
والمنقبون لم يعثروا على أية مدونات يعتد بها قبل تدوين القرآن الكريم ، وهناك بضعة سطور منقوشة عثر عليها بين العراق والشام (35) ، في الفترة الواقعة بين القرن السادس للميلاد وأثر السريانية فيها واضح ولكنها ليست بعيدة عن لغة القرآن الكريم والشعر الجاهلي .
وفيما عاد ذلك لم يصل إلينا مدونا بالعربية الفصحى في مطلع القرن السادس للميلاد سوى القرآن الكريم ” فصحف القرآن هي أقدم صحف مدونة كاملة وصلت إلينا عن العربية “(36)
أما الشعر الجاهلي والحديث النبوي وبقية التراث اللغوي فلم يدون على وجه التحقيق الا منذ أوائل القرن الثاني للهجرة.
ولغة القرآن الكريم تطالعنا – من غرب شبه الجزيرة العربية – وقد توفرت لها أسباب النضج والكمال ، الأمر الذي جعلها تضطلع بأعباء الفكر الإسلامي والثقافة العربية منذ ذلك الحين حتى يومنا هذا.
نماذج من آيات القرآن الكريم :
يقول سبحانه وتعالى : ” سورة النجم – الآيات 31-53 ” (37). في هذه الآيات – على قلتها – تتجلى الخصائص العريقة للغة العربية ، ففيها نبرز ثمانية وعشرين صوتا صامتا : ونجد من الأفعال : الماضي والمضارع فقط شأنه شأن بقية الساميات ، ومن الأسماء نجد المبني والمعرب ، ووفرة من حروف العطف والجر والنهي والاستفهام والنفي والتوكيد والاستثناء والتعليل… ونلاحظ خصائص الأفراد والتثنية والجمع ، وبعض المشتقات والمصادر. ونبرز علامات الإعراب : الرفع والنصب والجزم والجر ، كما نلاحظ غلبة الفعل على الاسم شأنه شأن اللغات السامية… وهكذا كله في تنسيق بديع ومنظم رائع وتنقل بين الخبر والإنشاء ، والإقناع تارة والسخرية أو التهديد تارة أخرى ، مع التحذير من عواقب الطغيان ، وضرب الأمثلة مما حل بالطاغين ، من أقوام عاشوا داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها ، وأنبياء استوطنوا شبه الجزيرة العربية وما حولها… كل ذلك في إيجاز مبين ، وموسيقى لفظية أخاذة ، غير نافرة ولا مستكرهة تتلاءم والمعنى وتتفق والسياق.
هذه الصور الناصعة للعربية الفصحى والحيوية الدافقة والقدرة على التعبير عن ادق المعاني وأعمق خلجات النفس واحكم قوانين التشريع… الدليل على هذا أن هذه اللغة طوعت كثيرا قبيل الإسلام حتى غدت على تلك الصورة من المقدرة والمدونة والدقة.
وآيات (الأحكام والتشريع) لا تقل مرونة ودقة عن آيات الوعظ والقصص والإرث. (انظر قوله جل جلاله) (38).
هذه الأحكام – على كثرتها – موجزة في آيات معدودة وقد استطاعت اللغة أن تساير التشريع بدقة وأحكام وإيجاز. ولولا ما في اللغة من مرونة وسعة في المعجم اللغوي والنحوي والصوتي والدلالي لما استطاعت أن تنهض بأعباء هذا التشريع المحكم في غاية من الدقة والإعجاز والإيجاز .
والقرآن الكريم – رغم إقرارنا بإعجازه – لم يأت بلغة لم يتكلمها العرب ، ولم يستعمل ألفاظا – لم يستخدمها العرب ، ولم تكن صيغ الجموع والأفعال والمصادر والمشتقات المختلفة التي وردت في القرآن الكريم غير مألوفة في العربية والفصحى أو في اللغات السامية وأدوات النفي والاستفهام والشروط والتوكيد… كانت معروفة مألوفة عند العرب وهي موجودة في الشعر الجاهلي وفي إشعار المخضرمين والإسلاميين.
لغة الشعر الجاهلي لغة القرآن الكريم :
بالرغم من أن الشعر الجاهلي وصل إلينا رواية (39) ، وبالرغم مما يثار حول الشعر الجاهلي من شكوك (40) ، فإن لغته على الأقل مقطوع بصحتها فهي تشبه لغة القرآن الكريم في معجمها وتراكيبها وأسلوبها وأن تفوق القرآن الكريم في بيانه وإعجازه وأحكامه.
ولو سلمنا بوضع الشعر الجاهلي كله ، ونسبناه إلى إسلاميين فإن لغته تبدو ” ذات تاريخ بعيد في طيات الزمن ، وأنها مرت بمراحل من التطور ، مما جعلها لغة عامرة تصلح أن تكون أداة صالحة لحضارة جديدة (41).”
نموذج من الشعر الجاهلي ولغته :
إذا كان في علمنا أن الأعشى حضر الإسلام ، ونسبت إليه قصيدة في مدح الرسول عليه السلام (42) ، وإذا علمنا أيضا بأن الأبيات الموالية له تعتبر من أوثق شعره وأجوده ، فإن اللغة التي كتبت بتا تعبر عن النضج الذي وصلت إليه العربية الفصحى قبل الإسلام.
يقول الأعشى يمدح الأسود بن المنذر اللخمي : (43)
عنده الحزم والتقى وأسا الصـــر ع وحمل لمضلع الأثقـــــــــال
وصلات الأرحام قد علم النــــــا س وفك الأسرى من الأغـــلال
وهو إن النفس العزيزة للذكــــــ ر إذا ما التقت صدور العوالي
وعطاء إذا سألت إذا العــــــــــذ رة كانت عطية البخـــــــــــال
ووفاء إذا أجرت فما غــــــــــــر ت حبال وصلتها بحبـــــــــال
إن يعاقب يكن غراما وان يعــــ ط جزيلا فإنه لا يبالـــــــــــي
والمكاليك والصحاف من الفضـ ة والضامرات تحت الرجـــال
رب حي أشقاهم آخر الـدهــــــــ ر وحي سقاهم بسجـــــــــــال
فالتأمل في هذه الأبيات القليلة يقتنع بأن الشاعر استطاع أن يضفي على ممدوحة صفات كثيرة مكنته منها التراكيب المرنة في العربية ، والمعجم الضخم والتراث الأدبي من مجاز وكناية وإيحاء حيث يستخدم الألفاظ في غير ما وضعت له أصلا وتتحول الكلمات والعبارات إلى دلالات أكثر جدة وأعمق تأثيرا. ومرونة التراكيب ودقة التشابه وروعة المعاني ما كانت لتتوافر للشاعر
لو أن اللغة كانت قاصرة أو بدائية أو حديثة العهد ، غير أن اللغة العربية كانت متمرسة بشتى ألوان التعبير الفكري والعاطفي والروحي ، فجاء القرآن الكريم تتويجا لتلك الخصائص العريقة في اللغة العربية ، وكان الشعر الجاهلي بخصائصه اللغوية الراقية دليلا آخر على الرقي الذي وصلت إليه العربية الفصحى قبل الإسلام.
الإحـــــــــالات و الـهـــــــوامــــــــــش
- د. السيد يعقوب – دراسات في فقه اللغة ، ص 9 وما بعدها.
- ترجمة د. احمد فخري – شجرة الحضارة ، ج/2 ، ص 183.
- إسرائيل ولفنسون – تاريخ اللغات السامية ، ص 18.
- د. احمد بدوي – اللغة المصرية القديمة وصلتها باللغات السامية ، مجلة مجمع اللغة العربية عامي 1960 و 1961 ، ص 264.
- د. رمسيس جرجس – اللغة الفرعونية وعلاقتها باللغات السامية ، مجلة مجمع اللغة العربية ج/14 ، ص 112.
- د. احمد بدوي – المرجع السابق ، ص 265.
- د. اخمد فخري – دراسات في تاريخ الشرق القديم ، ص 124 وما بعدها.
- إسرائيل ولفنسون – المرجع السابق ، ص 14.
- د. علي عبد الواحد وافي – فقه اللغة ، ص 18.
- د. جواد علي – المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ، ج/1 ، ص 222.
- د. عبد الصبور شاهين – القراءات القرآنية في ضوء علم اللغة الحديث ، ص 226.
- د. جواد علي – المرجع السابق ، ج/7 ، ص 75 – 101.
- مبروك نافع – عصر ما قبل الإسلام ، ص 42.
- ادوارد دروم – العربية الفصحى ولغة حمو رابي ، مجلة مجمع اللغة العربية ، ج/12 ص 188 – 190.
- د. احمد الحوفي – الحياة العربية من الشعر الجاهلي ، ص 69.
- د. محمود حجازي – اللغة العربية عبر القرون ، ص 21.
- د. جواد علي – المرجع السابق ، ص 9 – 10 – 286.
- فيليب حتى – تاريخ العرب مطول ، ص 88.
- د. مراد كامل – لغات النقوش العربية الشمالية وصلتها باللغة العربية ، ص 181 مجمع اللغة العربية العامي 1961 و 1962 م.
- د. شوقي ضيف – الشعر الجاهلي ، ص 112.
- د. مراد كامل – المرجع السابق ، ص 182 وما بعدها.
- و.ج. دي بورج – ترجمة : زكي سوس – تراث العالم القديم ، ص 55.
- عبد القادر المغربي – الاشتقاق والتعريب ، ص 30 – 38.
- إسرائيل ولفنسون – المرجع السابق ، ص 127.
- فيليب حتى – المرجع السابق ، ج/1 ، ص 100.
- جورجي زيدان – ترايخ العرب قبل الإسلام ، ص 101.
- جورجي زيدان – المرجع السابق ، ص 92.
- د. عبد العزيز سالم – تاريخ العرب قبل الإسلام ، ص 197.
- د. مراد كامل والبكري – تاريخ الأدب السرياني ، ص 5 – 09.
- فيليل حتى – المرجع السابق ، ج/1 ، ص 102.
- مجلة المثقف العربي ، مارس 74. عدد 02 ، ص 46 وما بعدها.
- إسرائيل ولفنسون – المرجع السابق ، ص 205.
- د. عبد المجيد عابدين – المدخل إلى دراسة النحو العربي ، ص 31.
- سيرة ابن هشام ، ج/1 ، ص 47.
- د. شوقي ضيف – العصر الجاهلي ، ص 32 – 37.
- إسرائيل ولفنسون – المرجع السابق ، ص 169.
- سورة النجم – الآيات : 31 – 53.
- سورة الطلاق – الآيات : 01 – 07.
- د. ناصر الدين الأسد – تدوين الشعر الجاهلي ، ص 155 وما بعدها.
- د. طه حسين – في الأدب الجاهلي ، ص 71 وما بعدها.
- د. إبراهيم السامرائي – مجلة المثقف – مارس 74 ، ص 40.
- د. محمد محمد حسين – شرح ديوان الأعشى ، ص 59.
– ابو الفرج الأصفهاني – الأغاني ، ج/09 ، ص 125.