كرامة الأستاذ بين الحماية والاستباحة

كرامة الأستاذ بين الحماية والاستباحة

وجهة نظر في ماجرى ويجري

لا يمكن الحديث في أمور التعليم ، تقدمه أو تخلفه ، جودته أو عدمها ، علته أو عافيته ، استجابته لطموحات المجتمع أو انحرافه عن منتظرات الأمة ، دون الحديث عن الأستاذ (ة) كفاعل أساسي فيه وعن وضعه كمعيار للنجاح والفشل . فهو قطب الرحى ، و”دينامو التغيير” ، إذ يأبى كل المحللين من المثقفين ،أو حتى عامة الناس أن يشيدوا به في حالة نجاح التعليم، أو يضعوه في قفص الاتهام في حالة فشله .
واعتبارا لهذا الوضع المتميز ، يحق لنا أن نتساءل كيف يتم النظر إلى شخصيته حين تستباح ؟ وأي نظرة تحكم الدولة والمجتمع في البحث عن الأسباب، وسبل مواجهة النتائج ؟ وما السبيل لجعل التحليلات تملك صلة منطقية بالمنطلقات والمسلمات ؟
إن النظر إلى أي إصلاح تعليمي مهما تكن أبعاده ومجالاته والجوانب المستهدفة فيه ،لا يمكن أن يستقيم بتغييب من توكل إليه مهمة النهوض به ، وإلا سيكون إصلاحا أو تغييرا بأدوات غير صالحة ، أو غير قادرة ، أو بها عطب ، لتكون النتيجة دون المنتظر ، بل قد تكون عكسية لا قدر الله . وبنظرة بسيطة إلى ما تعرفه الساحة الاجتماعية من هجوم متنوع الأشكال والمصادر والطبيعة، يتبين بجلاء أن استهداف الأستاذ ، وبالصورة المعاينة ،لا يمكن بأي حال أن تتيح معالجة الشأن التعليمي ولا التفكير الإيجابي في قضاياه ، ومن ثم لا يمكن إعداد القاطرة القادرة على جر المجتمع إلى شاطئ النجاة .
يتحدث المحللون والساسة ورجال الإعلام عن العنف المدرسي ، لا سيما ما يستهدف منه الأستاذ ، باحثين في أسباب الظاهرة ، والعوامل التي تذكيها ومظاهرها ، وسبل التخلص منها ، متعاطفين ، ومستنكرين ، أو ممتعظين ، لكنهم في القليل النادر ما يضعون الأصبع على المسببات الجوهرية للمرض ، والسبب في اعتقادي هو اختلاط والتباس وتفاقم هذه الأسباب ، لدرجة صعوبة ترتيبها حسب الأهمية والمسئولية . ولذلك ينبغي أولا اعتماد سلم في تحديد المسئوليات، لتتضح بدقة سبل العلاج . وعندي أن الدولة بقوتها المؤسسية ، وجلال قدرها تتحمل مسئولية كبرى في ما وقع ويقع للأستاذ ، لأنها أول من استباحه ومرغ كرامته ،حين منعته من الاحتجاج على واقعه بأساليب شتى ، منها المنع المباشر ، أو قطع رزقه لغير سند قانوني أو قاعدة اتفاق،حين ركبت الاقتطاع من أجرته عن كل إضران ، أو حين جعلت احتجاجه صيحة في واد ، باعتماد التجاهل وصم الآذان ، أو حين عنفته ماديا، مقدمة درسا للمجتمع ، تزيل من خلاله الصورة المثلى التي ظل يحملها له ، ويستمدها من وحي ثقافته، وموروثه الديني على الخصوص .
ويأتي المجتمع في المرتبة الثانية بما أنتجه من صور ثقافية، وتعبيرات تنم عن جهل أو حقد على الأستاذ ، وهو المحتاج إليه في رسم ملامح مستقبل أبنائه ، ومن خلالهم مستقبل الأمة بكاملها . فلم يعد المجتمع يحمل للأستاذ تلك النظرة المحاطة بكل أنواع التقدير والاحترام ، ليراه مجرد موظف يؤدي وظيفته، ويتقاضى عليها أجرا ، يعرف جيدا أن مصدره ميزانية الدولة التي تصرف على كل القطاعات ، بغض النظر عن اختلاف وظائفها وقيمها المعيارية .
ثم يأتي الأستاذ نفسه ليساهم في هذا الوضع حين عجز عن صيانة القيم التي أنتجها سابقوه ، وفضل الانخراط في قيم جديدة أنتجها العصر المادي ، الذي لا وزن فيه لأشياء إلا بقدر ما تحققه من فائدة مباشرة . ساهم الأستاذ نفسه في ذلك، بتسابقه نحو الكسب غير المشروع ، لحل أزماته الكثيرة وغير المختلفة عما يطرد في المجتمع . انشغل بأمور الحياة على حساب القيم الفاضلة التي كانت مهمة رسمها موكولة له دون غيره، وحين استفاق من غفوته ، وجد جبلا من القيم الفاسدة يحاصره ففضل دفن رأسه في الرمال تاركا الحل لقوة لا يعرفها.
إن تغير الأدوار والوظائف بالنسبة للأستاذ كان ينبغي أن يواكبه تفكير في الوضع الاعتباري ، وضوابط ترسم للعلاقات ، حفاظا على شرف المهنة ونبل الرسالة , وتلك مسئولية الدولة قبل المجتمع . فما صارت إليه صورة الأستاذ يتحمل الجميع مسئوليتها بنفس السلم الترتيبي ، مما يستوجب تحديد المسئوليات وإعادة رسم الالتزامات ، حتى لا تظل الأصابع موجهة ذات اليمين وذات الشمال دون جدوى .
كرامة الأستاذ عنوان على نظرة الأمة لتعليمها ، فهل نريده عنوانا مناسبا ومقبولا، أم نملأ من خلاله الفراغ وكفى ؟