تطوير مناهج التعليم

محمد الدريج4 أبريل 2013
تطوير مناهج التعليم

بسم الله الرحمن الرحيم

تطوير المناهج الدراسية و التحولات في المشهد التربوي المعاصر

إعداد : د. محمد الدريج
جامعة محمد الخامس- السوسي – الرباط

– تقديم .

حدث في العشرين سنة الأخيرة تحول في المشهد التربوي , تمثل أساسا في تغيير الباحثين لمجالات اهتمامهم و ابتعادهم عن الخوض في العديد من المواضيع من مثل الأهداف التربوية , و النقاش الساخن حول موضوع السلطة و النظام داخل المؤسسات التعليمية… فاتجهت البحوث للانشغال ببعض القضايا الجديدة- القديمة, من مثل قضية التمركز حول المتعلم وموضوع طبيعة التعلم و آلياته, والعودة للاهتمام مجددا بالمعرفة و بمحتويات التدريس و بالتنظيمات المنهاجية لمضامينه وغيرها. مما ساهم في ظهور نماذج لمناهج جديدة ، سنعمل على التعريف بها في هذه المداخلة .
كما أن تطور التربية حاليا ، يتميز بعودة الاهتمام بالعنصر البشري وبروز دوره بشكل جديد . إن ما يميز المخطط و الإداري و المرشد و الموجه و المعلم في وقتنا الحاضر ، هو المواجهة المستمرة للمستجدات و للمواقف غير المتوقعة و اتخاذ القرار . كما أصبح عملهم يتميز بالسعي الحثيث نحو تعديل السلوك والتكيف مع تحولات الواقع وضغوطات العمل اليومي ومسايرة في نفس الآن ، ما يصيب المناهج التعليمية من تجديد و تطوير .

فإلى أي حد يتمكن هؤلاء المهنيون ، من التفوق في هذه المواجهة و ينجحون في استيعاب المستجدات و مسايرة مقتضيات تطوير المناهج و تحديث أساليب التخطيط و العمل ؟ وما هي السبل الملائمة لجعلهم يندمجون في العمل بفعالية و يؤدون دورهم التربوي داخل مؤسساتهم بنجاح ؟

كما ظهرت عناية كبيرة بالمدرسة كمؤسسة و نشطت البحوث التي تهتم بشروط تحويل المدارس إلى مؤسسات ، لها نوع من الاستقلال في اتخاذ القرار على مستوى التجديد التربوي و المساهمة الفعلية في إرساء دعائمه و المبادرة في تنظيم مشروع المؤسسة و المنهاج المندمج للمؤسسة ، وعقد اتفاقيات التعاون و الشراكة مع فعاليات المجتمع المحلي وإشراك أولياء التلاميذ و المهنيين من حرفيين وتجار وفلاحين و غيرهم ، في الرفع من مستوى الأداء التربوي- التعليمي والمساهمة في تنمية المحيط الاقتصادي و الاجتماعي والثقافي .

و نشطت و بموازاة التقدم التكنولوجي ، دراسات تتناول مختلف أوجه الاستفادة من التكنولوجيا في مجال التربية وتوظيفها لتحسين أداء المدرسة والمدرسين.فاكتسحت تكنولوجيا الاتصال و المعلوميات مجال التعليم ليس كوسائل فحسب بل كأسلوب في التفكير وتنظيم العمل ، فظهر المنهاج التكنولوجي .

ثم ما أصبح يميز المشهد التربوي الحاضر، هو ميلاد جديد أو عودة للاهتمام على مستوى الدراسة و البحث , بقيم التربية و بعدها الأخلاقي ” مدرسة القيم ” , بعدما سادت منذ الثمانينات من القرن الماضي , النزعة التقنية والنموذج التكنولوجي في التعليم، فظهر ما يعرف بالمنهاج الإنساني و المنهاج الأخلاقي .

هذه بعض أهم المستجدات التربوية و التي كان لها بالغ الأثر في تطويرالأنظمة التعليمية على الصعيد العالمي ، سنعمل على التعريف بها في هذه الورقة و مناقشتها في إطار واقعنا التعليمي واحتياجات مجتمعاتنا العربية الإسلامية و ما نصبوا إليه من تعليم للمستقبل ، و ذلك من خلال العناوين الخمسة التالية :

1- تعريف المنهاج الدراسي ورسم حدوده و مستوياته.

2- تطوير المنهاج الدراسي ، معناه ودواعيه .

3- المنهاج و التحولات في المشهد التربوي العالمي .

4- تنظيمات معاصرة للمنهاج الدراسي .

5- مأسسة المدارس وخلق الظروف الملائمة للتطوير .

1 – تعريف المنهاج الدراسي
ورسم حدوده ومستوياته

1.1- التعريف

كانت البرامج الدراسية الرسمية إلى عهد قريب ، تختزل في لوائح المواد و المواضيع التي يتم تدريسها في مختلف المستويات التعليمية . كما كانت تختصر في جداول و استعمالات الزمن تحدد التوزيع الأسبوعي لتلك المواد . فعمل الرواد الأوائل في تخطيط البرامج ، وحتى يثبتوا تميزهم عن هذا التقليد الذي يولي أهمية كبرى لمحتويات التدريس ، على التركيز على التلميذ بدل المادة الدراسية و محتوياتها ، فنحتوا مصطلح المنهاج curriculum ) ) و الذي يعرفونه بشكل عام ، بكونه ” مجموع تجارب الحياة الضرورية لنمو التلميذ ” و بكونه أيضا ” جملة ما تقدمه المدرسة من معارف و مهارات و اتجاهات … لمساعدة المتعلم ، على النمو المتوازن و السليم في جميع جوانب شخصيته ” .

و تبقى تلبية مطالب النمو رهينة دائما ، بطبيعة الحال ، باكتساب المعارف و المهارات و الاتجاهات ، شريطة أن يتم ذلك بمراعاة لاحتياجات المتعلم و خصوصياته وبتوافق تام مع إعداده للمشاركة المسئولة في الحياة داخل المجتمع .

على أن مراعاة خصوصيات الطلاب و العمل على تلبية احتياجاتهم يطرح إشكالا معقدا ، يمكن التعبير عنه من خلال التساؤلات التالية :

– لمن يعود أمر اتخاذ القرار في ضبط تلك الاحتياجات و تحديد الأسبقيات ؟ وكيف يتخذ القرار؟ وما هي آليات التنفيذ ؟

يبدو من الواضح ومن خلال هذا الإشكال ، أن بناء المنهاج ليس مجرد مسألة تقنية ولا يطرح قضايا إجرائية فحسب ، بل يطرح بناء المنهاج وتطويره كذلك و في المقام الأول ، قضايا فلسفية و سياسية واجتماعية وثقافية ، حيث تتدخل المبادئ و الانتماءات و جماعات الضغط . مما يفسر ويبرر في نفس الآن ،إلحاح معظم الباحثين على تفصيل الحديث ، في بدايات تقاريرهم و مؤلفاتهم ، عن الأسس الفلسفية و الاجتماعية و المعرفية و النفسية وغيرها ، في تصميم المناهج وتطويرها.

2.1- مستويات المنهاج

درج الباحثون التربويون في العقدين الأخيرين ، على الحديث عن ثلاثة مستويات لتخطيط المنهاج الدراسي و تطويره :

المستوى الأول هو تخطيط المنهاج على الصعيد الوطني ( المنهاج القومي الرسمي )، والذي يوضع بإشراف من المصالح المختصة بالوزارة الوصية على التعليم . وأهم ما يميز المنهاج على هذا المستوى هو طابعه الشمولي و الموحد و تركيزه على المبادئ الأساسية و ترجمة فلسفة المجتمع و قيمه ومثله العليا و تشخيصها من خلال التوجيهات الرسمية و المذكرات والكتب المدرسية وغيرها .

المستوى الثاني يكمن في تشخيص المنهاج الرسمي و إعادة صياغته عند محاولة تنفيذ التوجيهات والمذكرات الوزارية، بمراعاة خصوصيات كل مؤسسة و إمكانياتها و الاحتياجات المحلية و ظروف حياة الجماعة التي تنتمي إليها.
وعلى هذا المستوى يتحدث المختصون في المناهج التعليمية ، عن المنهاج المندمج للمؤسسة ، و معناه أنه و بالإضافة إلى وجود منهاج رسمي وطني عام وموجه لجميع الطلاب في مختلف الأقاليم ، هناك نوع من المنهاج “المعدل”أ و المكيف و الذي يلائم خصوصيات المؤسسة والخصوصيات الاقتصادية و الثقافية للمنطقة واحتياجات سكانها …

المستوى الثالث للمنهاج يتمثل في برمجة الخطط الدراسية و تحضير الدروس التي ينجزها كل معلم حسب تخصصه والمستوى الدراسي الذي يتعامل معه . كما يتمثل أيضا ، في النشاط التعليمي الفعلي و أسلوب المعلم في التعامل مع التوجيهات و تنفيذ المقررات . و هنا نصل إلى أدنى مستوى من مستويات المنهاج و أغناها ، على اعتبار أنه يمثل المرحلة ” النهائية ” و الدقيقة في تأثير المنهاج في شخصية التلميذ وتحقيق أهدافه العامة و الخاصة.

3.1- المنهاج بين التخطيط والتنفيذ

كما يطرح بخصوص تعريف المنهاج و تحديد طبيعته، إشكال آخر يرتبط بالمسافة بين اتخاذ القرار و تنفيذه . الأمر الذي جعل العديد من الباحثين ( وينجرت وجرينبرج ،1996، ووليم عبيد ،1999، …) يميزون في تصنيفهم للمناهج بين :

– المنهاج المستهدف : أي الذي تتصدره المبادئ و المثل العليا و القيم والأهداف العامة من خلال التوجيهات الرسمية على الصعيد الوطني ؛
– المنهاج المقرر : المتمثل في الكتب المدرسية والذي يأتي مضمونه أقل من المنهاج المستهدف ؛
– المنهاج المنفذ : والذي يتم تدريسه فعلا داخل الفصل فتتراجع نسبته عن المنهج المقرر ؛
– المنهاج المحصل : وهو الحصيلة المتبقية في الأخير لدى التلميذ و تقيسه الاختبارات النهائية و الذي لا يزيد ” حجمه ” في المتوسط عن 40 % من المنهج المنفذ .

* * *

كما تثار بخصوص تعريف المنهاج و رسم حدوده ومجالات تدخله ، مسألة ما ظهر من المنهاج و ما خفي ( أي ما يعرف بالمنهاج الخفي أو الضمني ) ، وهي مسألة شديدة الحساسية وتتلخص في كون المعلم ( و المدرسة بشكل عام ) ، لا يعلم فقط ما هو مسطر في الوثائق و المذكرات و الدلائل و الكتب المدرسية التي تجسد وتشخص المنهاج الرسمي ولا يلقن فقط الأهداف المعلنة و الصريحة ، وذلك مهما كان حريصا ومهما بلغت درجة عنايته ودقته وتقيده بحرفية النصوص و التوجيهات . بل إنه يعلم بشكل ضمني ، أشياء أخرى ويستهدف عن وعي أو دونه ، أغراض غير معلنة وغير مكتوبة . لماذا ؟
لأنه وكما هو معلوم ،تتشكل لدى المعلم ( والحقيقة لدى جميع الناس ) خلال دراساته وتكوينه الأكاديمي و التربوي و خلال نموه المهني ، قناعات و أفكار خاصة به ، فضلا عما راكمه في شخصيته من تجارب و ما عاينه من خبرات تربوية في مدرسته وداخل أسرته . ويؤلف من كل ذلك ” تشكيلة ” أو “نظرية تربوية ضمنية ” خاصة به ، تقوم بدور الغربال أو المصفاة لكل ما يمر من معلومات وتقنيات وتوجيهات تربوية … لذلك فهو ينفخ في المنهاج قليلا من عنده ويطبع المقرر بطابع خاص.

ثم إن التلميذ لا يتأثر فقط بما يقوله المربون في المدرسة بل بما يفعلون كذلك، و بالشحنات الوجدانية التي ترافق سلوكهم و أداءهم وأسلوبهم في التعليم .. . كما يتأثرون خلال المدة الطويلة التي يقضونها في المدرسة الأساسية و الثانوية (حوالي 12ألف ساعة ) بزملائهم أثناء اللعب و المذاكرة ويتأثرون بالجو العام السائد في المدرسة و بالأنشطة وبتجارب النجاح والفشل …

الأمر الذي جعل بعض الباحثين يعتقد ،ربما بنوع من المبالغة ، في أن كثيرا من مخرجات التعليم لم تعد هي المخرجات المستهدفة و لا المتوقعة من المناهج المقررة و المعلنة رسميا .

2– تطوير المنهاج ، معناه ودواعيه

1.2- معنى التطوير

يعني التطوير بصفة عامة ، الوصول بالمستهدف المرغوب تطويره ، سواء أكان نظاما أم مؤسسة أم برنامجا … ، إلى أحسن صورة حتى يؤدي الغرض المطلوب منه بكفاءة ، ويحقق ما رسم له من أهداف على أتم وجه ، بطريقة اقتصادية في الوقت و الجهد و التكاليف . الأمر الذي يستدعي تغييرا في شكله و مضمونه ، تغييرا مقصودا ومنظما نحو الأفضل .
إن التطوير عملية شاملة تنصب على جميع جوانب الموضوع المستهدف . فعند تطوير المناهج الدراسية على سبيل المثال ، لابد أن يشمل التطوير جميع مكوناتها من مقررات و أهداف و طرق ووسائل و كتب مدرسية و أسلوب التقويم … بل إن التطوير بهذا المعنى ، ينصب على الحياة المدرسية بشتى أبعادها ، فلا يركز فقط على المحتويات العلمية كما كان الأمر في النموذج التقليدي و إنما يتعداها إلى الأنشطة و طبيعة الأداء القيادي و نظام التواصل و علاقات المدرسة بالبيئة والمجتمع المحلي…
ثم إن التطوير عملية ديناميكية ، على اعتبار أن جميع العناصر التي يصيبها التغيير تعمل بتفاعل مستمر ، بحيث يؤثر كل عنصر في العناصر الأخرى ويتأثر بها .
كما أن تطوير المناهج ليس نشاطا آحادي الاتجاه ، من أعلى إلى أسفل ، بل هو نشاط متفاعل يسير في الاتجاهين بشكل متزامن ، من أعلى إلى أسفل و من أسفل إلى أعلى .
كما أن التطوير ليس قرارا سلطويا يفرض من خارج السياق أو فرديا يتولى أمره بضعة أفراد ، بل هو نشاط اجتماعي تعاوني وتشاركي ، نابع من الاحتياجات الحقيقية للأمة و يساهم فيه الجميع ، المخططون على المستوى المركزي و المحلي ، المدرسون ، أولياء التلاميذ ، الموجهون …

ويرى المشتغلون بنظريات المنهاج ، أن التطوير الناجح للأنظمة التعليمية وإصلاحها لا يمكن أن يتم إلا إذا مس جوهر التنظيم المنهاجي بها . وهذا ما حدث بالفعل عندما ظهرت التنظيمات الحديثة للمنهاج و التي لم تبق حبيسة منهاج المواد الدراسية الذي يتميز بشدة تركيزه على المعلومات و قلة اهتمامه بالتلميذ واحتياجاته و مطالبه في النمو .

2.2- دواعي تطوير المنهاج الدراسي

كثيرة هي الأسباب التي تدعو إلى تطوير المناهج ، فمنها ما يرتبط بسوء وقصور المناهج السائدة ، ومنها ما يرتبط بالتغيرات التي تطرأ على المجتمع و البيئة أو تلك التي تصيب التلاميذ،أو التي تمس النظام التعليمي ذاته ، بحكم تأثير ما يستجد على الساحة التربوية وغيرها كما أسلفنا ( المؤثرات الداخلية ) .
و عموما فإن ما يفسر حدوث التطوير و الإصلاح في المجال التربوي ، هو أن التربية و التعليم نشاط اجتماعي يؤثر فيه المجتمع ويتأثر به . و بما أن المجتمعات تخضع باستمرار للتحول ، فإن التربية كذلك لابد أن تتطور و بشكل مستمر، مما يسمح لها بالتكيف مع الاحتياجات الجديدة . ومن هنا يكون من الخطأ الاعتقاد في إمكانية الانتهاء إلى نموذج تام ومثالي للمنهاج . ذلك أن الأنظمة التعليمية تعمل على التلاؤم باستمرار مع التغيرات في الاحتياجات و الناتجة عن تحول المجتمعات إلى صيغ عصرية .
كما تعود أسباب أخرى إلى مختلف التطورات على الصعيد العالمي و التي تشمل مختلف مناحي الحياة …

على أن هناك من يذهب إلى التأكيد على المؤثرات الخارجية ( تأثير النظام العالمي أو العولمة ) في تغيير التعليم وتجديد مناهجه . ” إن أنظمة الدول – حسب كمال نجيب، 1993– و الاقتصاد و الثقافة المعاصرة ، إن هي إلا تكوينات متطورة صنعتها عمليات عالمية ، صحيح أنها تتأثر بعمليات داخلية ولكنها تتأثر أيضا بعمليات خارجية ” .
فيكون من دواعي التطوير حسب هذا الرأي ، الضغوط التي تمارس من خلال المنظمات و البنوك الدولية ووكالات تمويل مشاريع التنمية أو من خلال بعض الجامعات ذات الصيت العالمي أو من خلال الشركات متعددة الجنسيات …أو مباشرة من بعض الحكومات …
و بطبيعة الحال لا يفوتنا أن نشير هنا ، إلى ازدياد الدراسات التي تنبه من مخاطر اقتباس التجديد و استيراد الإصلاح في المجال التربوي و في المنهاج الدراسي وأهدافه العامة على وجه الخصوص ( مخاطر ما يعرف بالتحويل أو النقل التربوي ) دون التأكد من ملاءمته لواقع المجتمع التعليمي المستقبل ، وقابليته للتطبيق . ولن نبالغ حين نقول ، بأن السبب الرئيسي وراء الفشل في مشاريع التجديد و الاصلاح التربوي في الدول النامية ، يعود إلى النقل التربوي ، والذي يؤدي في الغالب ، إلى عدم التحام منظومة الإصلاح الجديدة مع المنظومة التعليمية المحلية فتحدث ردود فعل رافضة للجسم الغريب .( محمد الدريج ، 2004) .

3 – تطوير المناهج و التحولات في المشهد التربوي المعاصر
1.3- التركيز على المتعلم

لعل التحول الأكثر بروزا في المشهد التربوي المعاصر , يكمن في السعي نحو نشر فكرة ضرورة تمحور التعليم على المتعلم ذاته. بطبيعة الحال ليس في ذلك تجديد كلي وجذري ,إذ وكما هو معلوم, فإن هذا التيار ميز التربية الحديثة منذ نشأتها أوائل القرن الماضي, حيث ناضلت العديد من المدارس الحديثة في التربية وبصفة خاصة التربية المؤسساتية, ضد التعلم الذي يقوم على أسلوب الإلقاء – التلقي . وضد غلبة العملية التعليمية على حساب العملية التعلمية ( التعليم على حساب التعلم).
كما نشط بعض الباحثين في اتجاه تعميم فكرة جعل التلميذ في مركز النظام التعليمي هذه الفكرة التي كانت خلال العشرية الماضية وراء العديد من البحوث و المؤلفات و التي تناولت مواضيع من مثل موضوع الوصاية , تفريد المساعدة, العمل الشخصي للتلميذ ، إتقان التعلم … و السؤال الآن ، هل دخلت هذه الأفكار بالفعل إلى المدارس وهل وجدت طريقها إلى الممارسة وحجرات الدرس ؟ وما هي معيقات التطبيق وصعوباته ؟
إن هذا التمركز حول المتعلم ، خاصة عندما يتشخص فيما يعرف بالتعلم الذاتي , يعني أن التلميذ هو الذي يبني معلوماته وعلمه وأن لا أحد يمكن أن يحل محله و أن يعوضه في هذه العملية . بطبيعة الحال ذلك لا يعني تهميش دور المدرس ، بل بالعكس . إن المدرس يعمل باستمرار على اكتشاف أخطاء التلاميذ في منطقهم الخاص و في أسلوبهم في التفكير وفي أدائهم و إنتاجاتهم الشخصية. و الكشف عن دلالات تلك الأخطاء و بالتالي عن كيفية إصلاحها و تجاوزها . إن الأخطاء أمر طبيعي في عملية التعلم , إنها لم تعد الأغلاط التي تستدعي محاسبة مرتكبيها ومعاقبتهم .إ ن الأخطاء تصبح مؤشرات مفيدة في فهم خصوصيات تفكير التلاميذ وذكائهم و منطقهم الخاص مما يساعد المعلم على تنظيم نشاطه بشكل فعال .( Astolfi J.P. 2001 ) .
وعلى سبيل المثال , فقد أثبتت العديد من الدراسات وجود لدى التلاميذ, وقبل شروعهم في التحصيل , أفكار و تمثلات خاصة عن مختلف المواضيع التي يدرسونها . وهذا ما يحدث بالنسبة لمعظم إن لم نقل لجميع المفاهيم العلمية ، سواء في الأحياء أو الفيزياء و الكيمياء …مثل الهضم والتغذية والتكاثر والطقس والحرارة وتحول المادة والقوة و التيارات الكهربائية …

إن الأطفال ومنذ حداثة سنهم يكونون تصورات ويستدخلون تمثلات حول جسمهم وبيئتهم وحول مختلف الظواهر المحيطة بهم . وما نلاحظه هو مقاومة تلك التصورات الشديدة ، لجهود التعليم. تلك المقاومة التي تستمر لديهم لمدة طويلة ودون تغيير يذكر, إلى حين وصولهم إلى الجامعة .

لذلك فمن الضروري العناية بتلك التصورات و التمثلات الخاصة والاهتمام عموما بجميع المكتسبات السابقة للمتعلم , والتي ينبغي إيلاؤها ما تستحقه من عناية، بل وجعلها في قلب النشاط التعليمي . إن التعلم ليس مجرد تراكم للمعلومات ، بل يمر التعلم عبر زعزعة المفاهيم بشكل خاص , وعبر المعالجة النشطة للصعوبات و المعيقات و الأخطاء.

* * *

2.3- التربية الفارقة

يقود الاتجاه المتمركز على المتعلم وبشكل تلقائي, إلى العناية بالخصوصيات و الفروق الفردية و بالتاريخ الشخصي و الاجتماعي للتلميذ . كما يقود إلى العناية بتنويع أساليب التعلم وتوجيهها لتلائم تلك الخصوصيات . إن العناية بالفروق الفردية و الذكاءات المتعددة تجنبنا تهميش أسلوب المتعلمين في التفكير و العمل وتجاهل منطقهم وذكائهم الخاص .
إن المشكل بخصوص أساليب التعلم والمعرفة , يكمن في محاولة تجنب الجمود و التقوقع في أسلوب واحد. وقد يكمن التحدي في كون كل تلميذ قد يحتاج إلى تربية خاصة وربما إلى منهج خاص.
لقد ارتبطت التربية الفارقة ودراسات الفروق الفردية بالعديد من النظريات النفسية الحديثة ، نذكر منها على سبيل المثال نظرية الذكاءات المتعددة و التي ظهرت بسبب عدم اقتناع كثير من علماء النفس بفكرة الذكاء الموحد .( هوار جردنر ،Howard Gardner ,1998 ) وانتهت أبحاثهم إلى تأكيد وجود على الأقل، ثمانية ذكاءات وهي :
– الذكاء اللغوي – الذكاء المنطقي – الرياضي
-الذكاء الجسمي – الحركي – الذكاء البصري – الفضائي
– الذكاء الموسيقي – الذكاء التفاعلي
– الذكاء الذاتي – الذكاء الطبيعي.

و تدعو هذه النظرية المدرسين ، إلى اكتشاف في وقت مبكر، نوع ذكاء طلابهم و ما لديهم جميعا ، من قدرات و ميول ( مهما أظهر بعضهم من علامات الضعف و التخلف الدراسي ) و تنميتها و رعايتها حتى تجعل صاحبها كفأ وبارعا في مجال معين أو مهنة معينة يميل إليها و له القدرة العقلية و المهارية على مزاولتها .
كما كان من نتائج الدراسات في التربية الفارقة التي تقر بوجود فروق بين الطلاب من حيث ميولهم و قدراتهم ، ظهور العديد من النظم المتطورة و تجريبها ميدانيا في العديد من الدول، ولعل من أهما على مستوى التعليم الثانوي :
– التشعيب ؛
– الأخذ بمبدأ المقررات الأساسية و المقررات الاختيارية ؛
– مناهج الصفوف الدراسية ذات القدرات المتعددة أو تجميع التلاميذ في صفوف
حسب قدراتهم.
– تصنيف كل مادة أساسية إلى ثلاثة مستويات يوزع الطلاب عليها وفق قدراتهم
– التعلم الذاتي ؛
– التعلم بالاكتشاف .
– التعلم الإتقاني ، و الذي يقوم على السماح للتلاميذ المتأخرين دراسيا بأن
يدرسوا حسب ما يحتاجونه من وقت ( …)
– تنظيم الحصص بصورة تراعي وتيرة وسرعة التعلم لدى التلاميذ ؛

ولكن الملاحظ هو أن هذه التربية الفارقة وضعت بدورها موضع سؤال ومحاسبة , نظرا لكونها تواجه باستمرار إشكالية عدم تجانس الطلاب في الصفوف و اكتظاظها , الأمر الذي يطرح صعوبات حقيقية أمام المعلمين و الإداريين ، على مستوى الممارسة و التطبيق.

* * *

لقد وجدت مثل هذه الطروحات في العديد من مشاريع إصلاح التعليم وتطوير مناهجه بالدول العربية ، مجالا خصبا للتطبيق والاغتناء .
ويمكننا أن نقدم كمثال على ذلك ، برامج إصلاح التعليم في سلطنة عمان ، حيث عملت المصالح المختصة في وزارة التربية و التعليم ، على إدراج العديد من الطرق والتقنيات من مثل : أسلوب الإكتشاف و أسلوب حل المشكلات في تعليم المفاهيم ، إذ تلح التوجيهات الرسمية … على ضرورة ” التركيز على أن يتحول دور المعلم من دوره التقليدي في تلقين الطلبة المعلومات و الحقائق العلمية ، إلى قائد أوركسترا يوجه فريق المتعلمين إلى اكتشاف مكامن إبداعاتهم و إبراز منابع مواهبهم ” . و العناية بالتالي ، بأسلوب حل المشكلات” . انظر بهذا الخصوص و على سبيل المثال ، ” دليل المعلم في الفيزياء ” ( الصف الثاني الثانوي – علمي ، طبعة 2001 ) ، والذي يقدم نموذجا أصيلا بخطاطة تصف وصفا دقيقا أسلوب حل المشكلات ، قصد تطبيقه في التجريب العملي في مادة الفيزياء .
و يتكرر الحديث عن ضرورة العناية بطبيعة المتعلم بشكل منتظم في معظم الوثائق الرسمية في السلطنة و الخاصة بموضوع المناهج ، و من بينها كتب التوجيهات و دلائل المعلمين ، ويمكن أن نذكر على سبيل المثال ” الحديث عن طبيعة المتعلم و خصائصه الجسمية و العقلية و الانفعالية و الاجتماعية ” في دليل المعلم في الأحياء ، ( للصف الأول ثانوي ، 1996) . ونقرأ في دليل المعلم في الفيزياء ،( للصف الثاني الثانوي العلمي ،2001) الحديث عن ” التعليم المبرمج كأسلوب لمراعاة الفروق الفردية بين الطلاب ” و الأمثلة كثيرة .
و في نفس السياق ، تلح مرئيات الهيئة الاستشارية لمجلس التعاون بدول الخليج العربية و الخاصة بالتعليم ( بناء على قرار المجلس الأعلى في دورته ال22و الملتئمة يومي 30و31 ديسمبر، 2001 بمسقط ) على ضرورة ” تطوير المناهج لتتناسب و خصائص المتعلم الذهنية و النفسية و مراحل تطوره العمري و احتياجات المتعلم و ظروفه المجتمعية ، باعتماد منهجية علمية تقوم على الاستفادة من الأساليب و التقنيات المتبعة في هذا المجال ، و تطوير استراتيجيات التعلم و التعليم بحيث ترتكز على التفكير المستقل و مهارات النقد الذاتي و حل المشكلات و البحث والابتكار و مهارات التفكير العليا ، مع ربط ما يتعلمه الطالب بمشكلات و ظروف تطبيقية “.

3.3- المعارف أم المفاهيم ؟

إن التركيز على المتعلم والعناية باختلاف التلاميذ في قدراتهم وتنوع أساليبهم في التفكير و العمل , لا يتناقض بالضرورة مع التركيز في نفس الوقت , على المعارف و المحتويات المدرسية . لكن هذا لا يعني الحنين إلى الممارسات التقليدية والرجوع إلى تفضيل المعرفة على حساب الأهداف التربوية ، كما هو الحال في النموذج التقليدي المنقرض ، بل اتخذ هذا التوجه منحى الاهتمام بالمفاهيم .
إن المفاهيم لم يعد ينظر إليها كمكونات معرفية نهائية وثابتة بل ينظر إليها باعتبارها إمكانيات أو استعدادات لتفكير غني و فعال وباعتبارها أيضا , أدوات وظيفية (إجرائية وعملية) تفتح أبواب فهم العالم ( الطبيعة و المجتمع ) وشفرات لفك رموز الكون و ظواهره . فتصير المفاهيم العمود الفقري في المواد الدراسية .(*)
إن نجاح أعمال بريت- ماري بات ( 1997 – Britt-Mari Bath ) يشهد على هذا الاهتمام الحالي بالتركيز على المفاهيم , و التي تقترح استراتيجيات لتجنب بقاء الفصل حبيس الأمثلة المدرسية المكررة وأنشطة التطبيق الروتينية .
لكن ما ينبغي التذكير به هنا ، هو أن تعلم المفاهيم ينبغي أن يتم بموازاة مع تعلم أسلوب حل المشكلات , إذ لا يتعلق الأمر فقط بإكساب التلاميذ كيفية حل المشكلات بل يتعلق أيضا بتعليمهم كيفية طرح الأسئلة وصياغة المشكلات .

* * *

و نشير إلى أننا وجدنا بهذا الخصوص ، في المناهج العمانية ، ما يواكب هذه الحقائق و يوظفها في تعليم مختلف المواد الدراسية وخاصة العلوم . ويمكن أن نقرأ على سبيل المثال ، في دليل المعلم في العلوم( للصف الثالث الإعدادي ):
” تمتاز المعرفة العلمية بالوحدة و التكامل ، و التكامل الذي نقصده هو التعامل مع الموقف ككل دون محاولة تجزئته إلى المجالات المتخصصة ، خاصة أن المتعلم في هذه المرحلة ( الإعدادي ) لا يعنيه إذا كانت الطاقة مثلا ، مرتبطة بمجال الفيزياء أو الكيمياء أو الأحياء ، بقدر ما يعنيه معرفة مفهوم الطاقة و أثرها ، ولذلك عولج مفهوم التلوث ككل فهو يحتوي على مفاهيم كيميائية و بيولوجية و فيزيائية متكاملة في وحدة واحدة ” .
فيتم النظر إذن ، إلى بعض المواد المتقاربة كحقول أو مجالات واسعة بحيث تصير المفاهيم هي العمود الفقري في تلك المواد. (منهاج التكامل بين المواد و منهاج المجالات الواسعة) .” مما يؤكد أن التكامل بين المواد وفي المحتويات، ينبغي أن يتم أساسا و حسب هذا المنظور ، بالربط بين المفاهيم في مادة دراسية معينة و المفاهيم في المواد الدراسية الأخرى ، مع مراعاة أن ترتبط المفاهيم ، على قدر الإمكان ،بواقع التلميذ وباحتياجاته “.

4.3- المعارف أم الكفايات ؟

كما ظهرت تيارات بحثية أخرى ، تفضل التركيز على موضوع الكفايات ( * ).
و المقصود بالكفايات ” تشكيلة من قدرات معرفية و مهارية ووجدانية ، كلما تمكن الفرد منها إلا وكان قادرا على توظيفها في سياقات كثيرة بعدما ارتبطت في بداية تشكلها واكتسابها بسياق واحد أو بمادة دراسية واحدة “.
ولعل من أهم أسباب النجاح الباهر الذي لقيته تلك التيارات , هو أن الكفايات تتميز عن المعارف من حيث العمل على احترام الرغبة الملحة في تمكين التلميذ من أدوات فكرية قابلة للنقل و التحويل(شبيه بما يعرف في علم النفس التربوي بانتقال أثر التدريب، كانتقال أثر التدريب بين اللغات ، فتعلم إحداها يساعد في تعلم الأخرى ). الأمر الذي لا تسمح به دائما المعارف و محتويات المواد الدراسية . وشكل هذا الاختيار أهم تحد بالنسبة للطرق المعروفة بطرق التربية الفكرية و التي وضعت أساسا لفائدة الجمهور العريض والذي كان يعاني من مشاكل مع المؤسسات المدرسية. وأيضا لفائدة التلاميذ الذين يعانون من صعوبات التعلم أو الراشدين الذين لا يتمكنون من التأقلم مع تطور المهن و يعجزون عن تحويل ونقل خبرتهم من مجال تكوينهم الأصلي إلى مجالات مهنية جديدة.

وتهدف تلك الطرق والتقنيات والتي عرفت نجاحا كبيرا في الثمانينات من القرن الماضي , إلى العمل على ولوج وبشكل مباشر , العمليات العقلية وتطويرها ، مع السعي نحو التخلص من إشكالية المعرفة ومحتويات المواد الدراسية. وكمثال على تلك الطرق و التقنيات ، نجد برنامج ” الإغناء المفاهيمي ” و كذا ما يعرف “بمعامل تطوير التفكير المنطقي ” وبرنامج ” كورت ” في اكساب مهارات التفكير وتنمية المواهب.. .

كما أن الكفايات تتميز و تمتاز عن المهارات المهنية والتي عادة ما تصنف في لوائح جامدة لا تساير التحولات السريعة في مجال المهن ولا تساير ما أصبح مطلوبا من مرونة في العمل.

* * *

لقيت مثل هذه الطروحات أصداء لها في أنظمتنا التعليمية ، إذ نلاحظ أن مدخل الكفايات هو المعتمد حاليا في إعداد برامج تكوين المعلمين بكليات التربية في معظم البلدان العربية بما فيها سلطنة عمان، خاصة برامج التربية العملية .
لكننا نلاحظ أيضا ، أن هذا المدخل لم ينتقل بعد ، لتنظيم المناهج الدراسية الموجهة للتلاميذ ، ما عدا في عدد محدود من الدول و من بينها المغرب ، حيث ما زالت البرامج تبنى إما وفق المعرفة أو وفق مدخل الأهداف السلوكية وذلك على الرغم من الصعوبات الكثيرة التي يعاني منها المدرسون و الموجهون التربويون أنفسهم ، في تعاملهم مع المدخل السلوكي ( محمد الدريج ، 2004 ).
و للتذكير فقد أوصى المجتمعون في ندوة “الأوزان النسبية للمواد الدراسية ” ، التي أقيمت في مملكة البحرين (10-14 مايو 2003) وشاركت فيها وفود تربوية من جميع دول مجلس التعاون الخليجي ، ” بعدم التقيد في بناء المناهج بمدخل واحد فقط أي بالمعرفة أو الأهداف أو الكفايات ، و أوصوا بأن يبنى المنهاج باعتماد هذه المداخل بدون انفصال ، لأنها تكمل بعضها البعض و تعطي قوة للمنهاج “. و أوصوا كذلك ” بالبحث في إمكانية دمج بعض المواد الدراسية التي تحقق كفايات متشابهة للاستفادة من الزمن الدراسي للمواد التي تناسب تطور العصر”.
كما اقترح المشاركون في المؤتمر الدولي حول تطوير التعليم الثانوي ، الملتئم بمسقط ( أيام 22-24 ديسمبر 2002 ) ، بخصوص نماذج المناهج ” أن ما يمكن أن يتعلمه الطالب بشكل فعال في المدرسة ، من الأفضل أن يكون محددا بمجموعة من الكفايات العامة الشاملة و الضرورية لكافة أنواع المهن و القابلة للتطبيق في عدد كبير من الظروف . إن مثل هذه الكفايات بدأت تظهر في عمليات التطوير الأخيرة للأنظمة التعليمية .” ( عن وثيقة تطوير التعليم الثانوي ، منشورات وزارة التربية و التعليم ، مسقط ، مارس 2003 ، ص.10).

4 – تنظيمات معاصرة للمنهاج الدراسي

كما أسلفنا ، يذهب العديد من علماء المنهاج إلى أن التطوير الناجح و الإصلاح الشامل للأنظمة التعليمية ، لا يمكن أن يكتمل إلا إذا شمل نموذج تنظيم منهاجها الدراسي ، فأنجزوا العديد من البحوث التي انتهت إلى اقتراح نماذج لتنظيمات منهاجية جديدة ، تحاول فك العزلة عن المدارس والتي بقيت منغلقة وحبيسة منهاج المواد ، خاصة منهاج المواد المنفصلة والذي يتميز بتركيزه الشديد على المحتويات المعرفية في شتى العلوم و بشكل مستقل ، و التعامل مع المقررات كجزر منعزلة و تهميشه للطلاب وتجاهل فروقهم الفردية واحتياجاتهم وميولهم .
كما أدت تلك الأبحاث إلى تميز ثلاثة منظورات أساسية في بناء و تطوير المناهج ، وهي :
1- المنظور المتمركز على المعرفة .
2- المنظور المتمركز على التلميذ .
3- المنظور المتمركز على المجتمع .

و أفرزت تلك المنظورات ، العديد من المناهج التي أصبحت تستجيب لمختلف التحولات ، خاصة ما ارتبط منها بالتحول في المشهد التربوي . فظهر المنهاج المحوري الذي يركز على احتياجات التلاميذ و مشكلاتهم . كما نشأ المنهاج الفعال و منهاج النشاط و الذي يركز على ميول الطلاب واستعداداتهم و ينطلق من تعريف المنهج باعتباره مجموعة من خبرات مترابطة و متكاملة ، توفرها المدرسة للطلاب ، قصد مساعدتهم على النمو الشامل ، وحيث أن الطالب لا يمكنه المرور بالخبرات إلا إذا قام بنشاط معين ، فمعنى ذلك أن النشاط يصبح أمرا حيويا لا غنى عنه في تحقيق الأهداف التربوية .
كما ظهر منهاج الا ندماج الذي يدمج دمجا كاملا بين مادتين متقاربتين و منهاج المجالات الواسعة و هو المنهاج الذي يدمج عددا من المواد المتقاربة الموضوع في مادة واسعة ( قطب أو مجال ) ، مثل دمج التاريخ و الجغرافيا و التربية الوطنية و الاقتصاد تحت اسم الدراسات الاجتماعية .
وفي العقود الأخيرة كثر الحديث عن أصناف أخرى من المناهج تصنف وفق معايير و منظورات مختلفة ، مثل المنهاج التكنولوجي و منهاج الاتصال التفاعلي و المنهاج الاخلاقي و المنهاج القومي و المنهاج التكعيبي و المنهاج الحلزوني و المنهاج الشمولي و المنهاج العالمي . . . ( انظر للمزيد : وليم عبيد و مجدي عزيز ابراهيم ، 1999وكذلك وليد هوانه 1998 ).

و سنقتصر في هذا العنوان ، على التعريف ببعض التنظيمات المعاصرة للمناهج على سبيل المثال ،وخاصة المنهاج التكنولوجي و ما أثاره من انتقادات تمخض عنها ظهور مناهج أكثرارتباطا بقضايا الإنسان و أقل ميلا إلى التنظيمات الانتاجية و التفكير الآلي و” مكننة ” التعليم .

أ – المنهاج التكنولوجي

ارتبط ظهور هذا التنظيم لدى كل من بوبيت Bobbit و بوفان Popham و بيكر Baker و غيرهم ، بالنظر إلى المدرسة على أنها جهاز إنتاجي لا يختلف كثيرا عن المؤسسة الصناعية . و النظر بالتالي إلى المنهاج ، كتعبير عن منظومة إنتاجية تسعى إلى استخدام أساليب التكنولوجيا و ما تقتضيه من تشغيل منطقي للعمليات العقلية في التعليم و التعلم .( محمد الدريج ، 2004) .
كما يدعو أنصار هذا المنهاج ، هيئة التدريس و الهيئة الإدارية للقيام بدور المهندسين التربويين الذين ينظمون و يديرون المنظومة التعليمية لإعداد التلاميذ للمساهمة في تطوير مجتمعهم ؛
و يطالبون بتطويع الاجهزة و المعدات ذات القدرة الفائقة في تخزين وعرض وتحليل و استدعاء المعلومات ، للعملية التعليمية .
و بالرغم من ارتباط المنهج التكنولوجي عادة بالمواد الدراسية المنفصلة ، إلا أنه يسعى إلى تنظيم محتوياتها منطقيا ، و ترتيبها في شكل مهام تعليمية متدرجة ، حيث تجزأ كل مهمة إلى ” مهرمات ” تعليمية أي مهام جزئية مرتبة ترتيبا هرميا ، بحيث يؤدي التمكن من المهمة الجزئية الأدنى إلى تعلم المهمة الجزئية الأعلى في الترتيب الهرمي .( وليم عبيد ، 1999، ص.85)
و في السنين الأخيرة اتسع المنهاج التكنولوجي ليشمل مفاهيم و أساليب تربوية معاصرة مما يثبت أن هذا الشكل من التنظيمات المنهاجية ، ينهل بدوره من التحولات في المشهد التربوي العالمي و بشكل خاص من :
– توظيف النظرية السلوكية في التعليم و القول بالأهداف السلوكية – الإجرائية ؛
– التعلم الفردي الإرشادي ؛
– تفريد التعليم لكن بالتركيز من بين الفروق الفردية ، على اختلاف الطلاب في وتيرة (سرعة) التعلم . ( ومن هنا وجب التمييز بين التعليم الفردي المعتمد في هذا المنهاج و بين التعليم الشخصي المعتمد في المنهاج الإنساني ،بمعنى أن المتعلم في الشكل الأول قد يعمل منفردا و لكن المادة التعليمية التي يتعلمها ليست مادة خاصة به بل هي موجهة للجميع، في حين يوضع في المنهاج الإنساني برنامج مختلف لكل فرد)
– مدخل النظم ؛
– التعليم المبرمج ؛
– استخدام الحاسوب في التعليم ؛
– توظيف الأنترنيت …

ب – المنهاج الإنساني

يمكن اعتبار المنهاج الإنساني و الذي يعرف أيضا بمنهاج الاتصال التفاعلي ، كرد فعل ضد النماذج التكنولوجية في التعليم ، والتي اتهمت بكونها تسعى إلى خلق الإنسان الآلي ، في حين ينبغي النظر إلى التعليم كنشاط إنساني يهدف إلى خدمة الإنسان كإنسان . و أن يكون للمنهاج بعد يراعي حرية الاختيار و القول والفعل و المشاركة والتفاعل . وضرورة قبول المتعلمين لفكرة تحمل مسئولية تعليم أنفسهم و اتخاذ القرارات بأنفسهم.( محمد الدريج ، 2004 ) .
كما يتميز هذا المنهج ب :
– التركيز على عملية الاتصال التي تحقق وجهة نظر المتعلمين .
– توجيه الاهتمام أولا وأخيرا للمتعلم واحترام خصوصياته وليس فقط وتيرته وسرعته في التعلم كما يفعل المنهاج التكنولوجي .إن عملية التعلم لايمكن وضعها كنموذج واحد لجميع المتعلمين وذلك بسبب اختلافهم في مستوى الذكاء و تعدد ذكاءاتهم و مستوى التحصيل وتاريخهم الدراسي و أسلوب تنشئتهم الاجتماعية … فكان لابد من تنويع المناهج كي تراعي البعد الإنساني و الظروف المؤثرة في نمائه .
– الرفع من شأن الاحترام المتبادل بين جميع الأطراف الفاعلة في الحقل التربوي و المستفيدة منه .
– النظر إلى التعليم على أنه خبرة ذاتية واقعية ، لذا يجب أخذ رأي المتعلم في الاعتبار بالنسبة للموضوعات التي يتعلمها و القرارات الخاصة بهذا الشأن .
– النظر إلى المدرس على أنه المرشد و الموجه للمتعلمين .
– النظر إلى الخبرات الأولية التي يكتسبها المتعلم على أنها الزاد القوي و الضروري للفهم و اكتساب المفاهيم ، و بخاصة في المراحل المبكرة للتعليم .
( وليم عبيد و مجدي عزيز إبراهيم ، 1999 ).

ج – المنهاج الأخلاقي

أثبتت العديد من الدراسات المعاصرة ، أهمية إعادة الاعتبار للتربية الأخلاقية وضرورة صياغة ثقافة مدرسية ترتكز أولوياتها على القيم الأخلاقية (مدرسة القيم ) و ليس فقط على المعارف و المهارات . مما أدى ببعض المشتغلين بنظريات المنهاج ،إلى الحديث عن المنهاج الأخلاقي وحددوا عددا من الأهداف التي ينبغي أن يحققها هذا المنهاج و التي يمكن تلخيصها في النقاط التالية :
– الحرص على اكساب التلاميذ سمات و عادات شخصية مرغوب فيها ، مثل : الأمانة و التعاون و مساعدة الآخرين .
– الحرص على الارتباط بالقيم المتصلة بالمجتمع و بالوطن و تاريخه ومقدساته ، مثل الانتماء و الالتزام و التضحية و تقدير العمل ومعرفة الخصائص المميزة لثقافة المجتمع وتراثه .
– ترسيخ القيم الكونية ، مثل : احترام حقوق الانسان و رفض فكرة الاحتلال و التعاون و الحوار و التسامح و تقدير أهمية الشرعية الدولية و المبادئ و المواثيق التي صادقت عليها الأمم .

و للتذكير فإننا نجد في المنهاج الإسلامي في التربة ، منبعا لمثل هذه الأهداف و التوجهات ، ذلك أن الإسلام دين قيم ، و أن جميع تشريعاته و أحكامه و أفكاره ، ليست غاية في ذاتها و إنما الغاية القصوى تتمثل فيما قاله الرسول عليه الصلاة و السلام : ” إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق “.

* * *

تعددت إذن، المناهج و كثرت النظريات ، إلى الحد الذي بدأ معه الكثير من المشتغلين بعلم التدريس و الممارسين منهم على وجه الخصوص ، يشتكي من هذا الزخم النظري الهائل و يتساءل ، كيف يمكن التعامل مع كل تلك النماذج ؟ وهل تستطيع المؤسسات التعليمية استيعابها ؟ وهل ستتمكن هيئة التدريس والإدارة من ملاحقتها وتوظيفها ؟
كما تطرح تساؤلات حول شرعية التعامل أصلا مع النماذج الجديدة وتوظيفها ، كما لو كانت صناعات تنقل ؟ وشرعية استيراد هذا النموذج أو ذاك كما تستورد السلع ؟

والحقيقة أن الإشكال ، يكمن في قدرة الأنظمة التعليمية على إبداع و توليف من كل تلك المستجدات ، ما يناسب خصوصيات مجتمعاتها ويلبي احتياجات أفرادها ويلائم مختلف المراحل الدراسية لديها، والذي لا يوجد بالضرورة في واحد فقط من تلك المناهج .

وفي هذا السياق ، عملت وزارة التربية و التعليم بسلطنة عمان ، كما هو معلوم ، على تطوير وتحديث التعليم فأنشأت نظام التعليم الأساسي والذي تم تصميمه وفق آخر المستجدات التربوية ، دون الانغلاق في نموذج واحد . ” ومما يميز هذا النظام سعيه نحو ملاءمة المنهاج الدراسي للمتعلم في مختلف الفئات العمرية و المستويات الدراسية و استناده على العديد من النماذج الحديثة و التي أصبحت تميز المشهد التربوي العالمي ، من مثل : محورة التعليم حول التلميذ و مراعاة الفروق الفردية بين التلاميذ و اكسابهم مهارات التعلم الذاتي و الاستمرارية فيه و تركيز الاهتمام على التطبيقات العملية للمحتوى و ربطها بالبيئة واعتماد أسلوب التجارب في المواد العلمية و أسلوب حل المشكلات …”(*)
كما صنفت المناهج في الحلقة الأولى من التعليم الأساسي ، إلى مجالات تراعي التكامل و الترابط بين المواد الدراسية …و غير ذلك من النماذج التي يستحيل حصرها في هذه العجالة ، و التي تثبت قدرة الأنظمة التعليمية في بلداننا ، على إبداع و توليف نماذج أصيلة في بناء وتطوير المناهج .

و نقدم على ذلك ، مثالا من التجربة التي طبقت بمبادرة من المديرية العامة للتربية و التعليم بجنوب الباطنة بالسلطنة ، ابتداء من أواخر العام الدراسي 1999/2000 ،و التي عرفت ” بالتخطيط بنظام الوحدة الدراسية ” ويتلخص هذا النوع من التخطيط و الذي يلازم التخطيط اليومي للمواقف ويكمله ، في ” التركيز على الإعداد لمجموعة مواضيع مترابطة ، حيث يقوم المعلم بتنظيم المعارف و المعلومات و الأنشطة التعليمية التي ينبغي أن يقوم بها الطالب ، في نموذج متكامل يساعد على تحقيق الأهداف المنشودة ، فينجز المعلم تحضيرا واحدا لعدد من الحصص ذات الموضوع الواحد أو مجموعة من المواضيع المتشابهة و المترابطة و تدريسها كوحدة واحدة “.

على أن ما أثار انتباهنا في هذه التجربة هو ترك الحرية للمعلم لكي يضيف مواضيع جديدة غير مدرجة في الخطة الرسمية و إثراء المادة العلمية بما يضيفه من موضوعات خارجية (**).

——————–
(*) راجع على سبيل المثال ،” التقرير الوطني لتطوير التعليم بسلطنة عمان ” ، منشورات يونسيف و اللجنة الوطنية العمانية للتربية والثقافة والعلوم ،مسقط ،2001 . وكذلك :” الدليل التعريفي بالتعليم الأساسي لكليات التربية ” ، وزارة التعليم العالي ، المديرية العامة لكليات التربية ، مسقط 2003 .
.(**) انظر للمزيد : ” التخطيط بنظام الوحدة الدراسية ” مجلة رسالة التربية ، العدد الثاني نوفمبر 2002، وزارة التربية و التعليم ، مسقط .

5- مأسسة المدارس وخلق الظروف الملائمة للتطوير

من أهم شروط إصلاح التعليم بشكل عام و تجديد مناهجه بشكل خاص ، خلق الظروف الملائمة للنجاح و في مقدمتها إ يجاد المناخ المناسب لتطبيق مقتضيات الإصلاح و تنفيذ آليات تطوير المناهج داخل المدارس و الفصول ، أي على أرض الواقع . وقد نشطت في هذا الاتجاه، بحوث تربوية كثيرة مبرزة دور المدرسة كمؤسسة ، وانتهت إلى العديد من النتائج والتي يمكن اختصارها في العناوين الأربعة التالية :
– تحويل المدارس إلى مؤسسات .
– الإدارة المدرسية وقيادة التطوير.
– إحداث مشروع المؤسسة .
– نظام الشراكة التربوية .

1.5- تحويل المدارس إلى مؤسسات

وذلك للاعتبارات التالية :
– إن دور المدرسة بشكلها الحالي وفي العديد من الدول ، يقتصر على تعليم الطلاب وفق التعليم التقليدي الذي لا يتدخل في إثراء المناهج و تطويرها ، وفي إغناء أساليب التدريس و طرقه .
– عدم قدرة المدرسة اليوم ، على ضبط الجودة في جميع الأعمال و المهام المدرسية ، بحيث يصعب تطبيق أسلوب إدارة الجودة فيها ، كما يصعب تقييم أدائها تقييما شاملا .
– لا يتم استغلال المبنى المدرسي و موارده المادية و استثمار الإمكانيات المتاحة بالشكل الجيد .
– تناثر الأعمال و تشتت الأنشطة ( التربوية و الثقافية والرياضية …) و عدم تحديدها في مشروع شامل و في منظومة متكاملة مكونة من عناصر مترابطة و متناسقة و متفاعلة بانتظام .
– انغلاق المدرسة و انكفائها على نفسها ، و عدم الانفتاح على المجتمع الخارجي و البيئة المحلية وعدم البحث عن سبل التأثير و التأثر فيها .
– المعاناة جراء الإشكالية الأزلية ، المتمثلة في علاقة المحيط بالمركز و الاستقلال عن مركزية التخطيط و التنفيذ و التقييم في المناطق التعليمية .

لكل تلك الأسباب ، برزت الحاجة إلى ضرورة تحويل المدارس إلى مؤسسات بالمعنى العصري للمؤسسة و ذلك من خلال :
– خلق ثقافة المؤسسة و مقوماتها و إيجاد آليات التحول ؛
– تطوير الهيكل التنظيمي المدرسي و إكسابه المرونة اللازمة ليتوافق مع مميزات كل مدرسة على حدة و خصوصيات المنطقة و المجتمع المحلي الذي توجد فيه؛
– ضرورة تطوير النمط القيادي بها و الرفع من كفاءة الإدارة وتسهيل سبل التواصل بين مختلف العاملين بالمؤسسة ؛
– تحسين أسلوب أداء مجالسها وخاصة مجلس الآباء و الأمهات و مجلس مربي الفصول و مجالس الفصول ؛
– تحديد هوية المؤسسة وخصوصيتها أي وضعيتها الراهنة وواقعها الحالي واحتياجاتها ثم ما تطمح إليه ؛
– التمتع بنوع من الاستقلال الذاتي على مستوى التسيير الإداري و المالي و خاصة على مستوى التأطير التربوي ؛
– القدرة على إدماج التجديدات التربوية المقترحة في مشاريع الإصلاح و مواءمتها مع خصوصيات المؤسسة و أولويات العمل التربوي بها …

على أن مأسسة المدارس لا يمكن أن تستقيم ، دون إقامة و تفعيل اتفاقيات التعاون والشراكة و إحداث مشروع المؤسسة .

2.5- الإدارة المدرسية و قيادة التطوير

حظي موضوع الإدارة التربوية باهتمام خاص من لدن الباحثين التربويين في العقود الأخيرة من القرن الماضي ، مما أثرى المشهد التربوي المعاصر ، و راكم حصيلة معرفية غنية أصبحت تزود المخططين و عموم الإداريين ، بالعديد من الحقائق و النماذج الكفيلة بتطوير أساليب العمل الإداري بما يساهم بدوره في تطوير المناهج وتحديث الممارسات التربوية .
ولعل من أهم تلك الحقائق ، تغيير النظر إلى العملية الإدارية ، باعتبارها ليست مجرد تسيير للأعمال أو ممارسة للسلطة ، بل هي عملية قيادة في المقام الأول. إنها عملية قيادية بما قد يكتسبه الإداري من قدرة على تحفيز الآخرين للاندماج في العمل التربوي و تحقيق أهداف المؤسسة التعليمية .
” إن قيادة التطوير نمط يبني الالتزام و يخلق لدى العاملين في المؤسسة التعليمية، الحماس و الدافعية للتغيير ، ويزرع لديهم الأمل بالمستقبل ، و الإيمان بإمكانية مساهمتهم في التخطيط للأمور المتعلقة بنموهم المهني و إدارتها .” كما تعني ” قيادة الجهد المخطط والمنظم ، للوصول إلى تحقيق الأهداف المنشودة للتطوير، من خلال التوظيف العلمي للموارد البشرية و الامكانات المادية و الفنية المتاحة للمؤسسة ” (منى مؤتمن ، 2003 و أيضا Fullan ,M. 1998) .

وتتطلب قيادة التطوير :

– امتلاك القدرة على المبادرة و الإبداع لإحداث التطوير في مختلف عناصر المؤسسة وعلى رأسها المناهج و الطرق التعليمية ؛

– القدرة على إدارة الجودة والتي تقتضي إشراك جميع العاملين في جميع المستويات في توظيف الإمكانيات المادية و البشرية المتاحة لتطوير الأداء التربوي و تحقيق الأهداف بأقل تكلفة و أقصر وقت و أدنى جهد و أفضل النتائج ، في جميع مجالات العمل بحيث يتم تلبية احتياجات المتعلمين و مجتمعاتهم ؛ (*)

– توفير المناخ الملائم لتجديد المناهج و تحديث أساليب العمل وأدواته ؛

– الارتقاء بقدرات المؤسسة و أدائها لتكون قادرة على مواكبة المستجدات و التعامل مع ما ينسجم منها مع الأهداف العامة ، بإيجابية ؛

– العمل الجماعي مع الآخرين و حل المشكلات المدرسية بصورة تعاونية ، بما يعزز الأساليب الجديدة في العمل الإداري والتربوي ؛

– تسهيل سبل التواصل داخل المؤسسة و خلق الثقة بين العاملين بها ؛
– بناء ثقافة المؤسسة ؛

– الاهتمام بتعزيز النمو المهني المستمر للمعلمين و تجديد كفاياتهم المهنية و تجويدها بما يؤهلهم لأداء أدوارهم المتجددة بكفاءة و اقتدار، في مجتمع التعلم الدائم و التربية المستدامة .

—————————
(*) من بين بعض مظاهر عناية وزارة التربية و التعليم في سلطنة عمان على سبيل المثال ، بتطوير العمل الإداري للمدارس ، إحداث ” برنامج التقويم الشامل للمؤسسة التربوية ” ، والذي تشرف عليه دائرة الأنظمة و تقييم الأداء المدرسي ( راجع للمزيد : ” مشروع تقويم وتطويرالأداء المدرسي ” ( تحقيق من إنجاز طاهرة اللواتي و حسن جعبوب )
مجلة رسالة التربية ،العدد الثاني ،نوفمبر 2002، وزارة التربية و التعليم ، مسقط

3.5- إحداث مشروع المؤسسة

على الرغم من تعدد استعمالات مصطلح المشروع في المجال التربوي منذ أوائل القرن الماضي و خاصة مع جون ديوي ، فإن مشروع المؤسسة في تعريف المعاصرين ، هو برنامج إرادي تطوعي مؤلف من سلسلة من الأعمال و الإجراءات والتي تتمحور حول مشروع واحد قد يستمر لمدة سنة كاملة أو أكثر ( مثل برنامج للدعم التربوي و العناية بالضعاف من التلاميذ و التقليل من نسب الرسوب أو برنامج توظيف خدمات الأنترنيت في تحسين شروط التعلم الذاتي للمعلمين و الطلاب … ) إجراءات تستهدف بشكل منسجم ، الحصول على أفضل النتائج في المدرسة و الرفع من مستوى وجودة التعليم بها ، وتعميق ارتباطها بمحيطها و اندماجها في مجالها الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي .
إن مشروع المؤسسة خطة منظمة متناسقة العناصر ، يتعاون على تنفيذها فريق تربوي (مجموعة عمل ) مشكل من أعضاء من هيئة التدريس و الإدارة و أولياء أمور التلاميذ ( وفي بعض الحالات من التلاميذ أنفسهم ) و بعض المهنيين من المنطقة ، بإشراف مدير المؤسسة وتوجيه منه . يعملون من خلال جملة من الأنشطة المتمحورة حول موضوع رئيسي واحد وتستهدف تحقيق جملة من الأهداف التربوية و التعليمية ، في انسجام تام ، بطبيعة الحال ، مع المنهاج المدرسي الرسمي و مع غاياته و مبادئه .
من خلال هذا التعريف نستنتج أن مشروع المؤسسة هو في المقام الأول ، وسيلة لخلق أكبر قدر من الانسجام داخل المؤسسة و الاندماج بين جميع الفاعلين فيها ، و توفير الشروط الملائمة لتطبيق التجديد في المناهج والطرق ،و ذلك بما يوفره من جو يسمح بالعمل الجماعي حول أهداف مشتركة .

4.5- نظام الشراكة التربوية

بدأ نظام الشراكة منذ أواسط الثمانينات يبرز ويتسع ليشمل مجال التعليم و حدث ذلك في التعليم العمومي في بعض الدول الأمريكية قبل أن ينتقل إلى أوربا.
و تضافرت العديد من العوامل في ظهور الشراكة التربوية وهي في مجملها نفس العوامل التي شجعت ظهور مشروع المؤسسة و السعي نحو مأسسة المدرسة كآلية للتطوير و التجديد التربوي .
ولعل من أهم تلك العوامل ، تحول المجتمعات المرتبطة بالصناعة ، إلى مجتمعات تابعة للإعلام و الاتصال و قطاع الخدمات .
كما نشطت الشراكة في المجال التربوي بفعل ظهور ” التوجه إلى المحلي ” و بالأهمية المتعاظمة للأقاليم و الجهات الاقتصادية و المدن والتجمعات السكنية في الأحياء .الأمر الذي أتاح إمكانيات واسعة أمام المدارس ، للمبادرة و الاستقلال في اتخاذ القرار، تلك المدارس التي تتحول إلى مؤسسات في مستوى التفاوض و الدخول في علاقات التعاون مع محيطها و ابرام الاتفاقيات .

و بصفة عامة ، عندما تطبق الشراكة في المجال التربوي ، فإنها تكون في الغالب بين مؤسستين أو أكثر وتجند الفاعلين التربويين للعمل في إطار مشروع مشترك ، شريطة أن تحترم كل مؤسسة المؤسسات الأخرى المشاركة فيما يتعلق مثلا، بالبرامج الدراسية و استعمالات الزمن و أساليب التدريس و التنظيمات الإدارية والتربوية الجاري بها العمل . ( محمد الدريج ،1996 ) .

كما يقتضي نظام الشراكة ، أن تقدم كل مؤسسة دعما للمؤسسات الأخرى ، بأن تضع رهن إشارتها مختلف الإمكانيات المادية و البشرية المتوفرة ، بحيث تنفتح كل مؤسسة على الأخرى في اتجاه انفتاحها على محيطها .(*)

——————–
(*) نلاحظ ازدياد العناية بتطوير المدارس على أسس علمية ببعض الدول العربية ،فقد أوصت على سبيل المثال ، الهيئة الاستشارية للمجلس الأعلى لمجلس التعاون بدول الخليج العربية، في مرئياتها بشأن التعليم و تطوير المنظومة التعليمية ،( الدورة الرابعة – مملكة البحرين ، فبراير 2001 )” بإعادة هيكلة النظام التعليمي بشكل كامل بما في ذلك إعطاء مزيد من الاستقلالية الإدارية و التربوية للمدرسة و جعلها مسئولة عن مستوى أدائها” . كما توصي ” بتقوية العلاقة بين مؤسسات التعليم و مؤسسات الإنتاج و كافة المؤسسات المجتمعية ” .

خــــــــــــاتمة

انطلقنا في هذه الورقة ، من محاولة إثبات العلاقة المتينة بين المناهج الدراسية و الفكر التربوي السائد وانتهينا فعلا إلى ملاحظة أنه لما كان هذا الفكر دائم التغير بحكم عوامل كثيرة ، أصبح من الطبيعي أن تستجيب المناهج لكل تغيير يصيب المشهد التربوي الذي تنهل منه .
لكن لم يكن همنا هنا ، رصد جميع ما لحق بالمناهج من تطور ولا تتبع كل التحولات التي مست المشهد التربوي المعاصر ، فقد أغفلنا على سبيل المثال ، الدور الأساسي الذي يلعبه كل من المعلم والموجه في خلق أسباب نجاح التطوير و الذي لا ينبغي إهماله ، سواء على مستوى التخطيط أو بعد ذلك عند الممارسة والتنفيذ .
إن التحولات في الساحة التربوية الراهنة على الصعيد العالمي ، ليست وليدة الصدفة و لكنها وليدة واقع تتشابك فيه العديد من العوامل وتتفاعل ، في إطار علاقات و مصالح و تكتلات شديدة التعقيد . لذلك فإننا نعتقد أن العمل من أجل تطوير المناهج ، ينبغي أن ينطلق من النظرة الشمولية لتلك التحولات و أسبابها الداخلية و الخارجية و أن يشمل في الوقت ذاته مختلف جوانب التطوير و التحديث داخل المجتمع وفي قلب المنظومة التعليمية ذاتها .
كما ينبغي النظر إلى المنهاج التعليمي في جميع مكوناته ( الأهداف ، المقررات والمحتويات ، الطرق والوسائل،نظام التقويم ، الفاعلون التربويون …) و التي تعمل و تتفاعل بشكل ديناميكي . فكلما أصاب التجديد جانبا من المنظومة إلا وتأثرت بالضرورة الجوانب الأخرى و تفاعلت. الأمر الذي حاولنا بيانه من خلال ما استجد من أفكار ونظريات عن بعض تلك المكونات ، و خاصة ما أصبح يعرف بمأسسة المدرسة و الرفع من مستوى الأداء بها وجودة خدماتها و تطوير الإدارة المدرسية و دورها القيادي .
كذلك خلصنا إلى أن تطوير المناهج لابد أن يمس تنظيماتها و التي مرت بالفعل بسلسلة من التجديدات التي عملت على التخلص من الارتباط كلية بمنهاج المواد الدراسية وتوظيف المستجدات التربوية في بناء نماذج جديدة تناسب مختلف الأعمار و مختلف المستويات…لعل من أهمها :
– التركيز على المتعلم ؛
– استبعاد فرض المعرفة الجاهزة ، لصالح التعلم بالاكتشاف وأسلوب حل المشكلات و طريقة المشروع ؛
– اعتماد تفريد التعليم و التعلم الذاتي و التعلم المستمر ؛
– و أن يبني الطلاب معارفهم وخبراتهم بالعمل ضمن مجموعات البحث والحوار ، مجموعات لها قدر من الاستقلالية في التفكير و الأداء ؛
– البحث في سبل اكساب الطلاب مهارات و كفايات قابلة للتحويل والنقل من مجال إلى آخر، مع الأخذ بعين الاعتبار مستوى التطور العقلي و الوجداني للطالب ؛
– التفاعل مع المحيط الاجتماعي و ربط المحتويات المعرفية باهتمامات الطلاب و احتياجاتهم و بأنشطة اجتماعية ؛
– العناية بالمكتسبات القبلية للطلاب ( السابقة) وبخاصة تمثلاتهم (تصوراتهم) و أساليبهم العفوية في التفكير ؛
– الحرص على التداخل والتكامل بين المواد ، وتوظيف المفاهيم و الكفايات في عملية الربط .

* * *

لكن التأكيد على أهمية هذه المستجدات ، لا يحول دون ظهور من يتحفظ على حتمية الأخذ بها ، وينادي بالتوقف عن الاعتماد كلية على نتائج البحوث التربوية في الدول الأجنبية ، رغم عدم التشكيك بالضرورة في مصداقيتها، و الدعوة إلى تشجيع البحوث المحلية و التي تهتم بدراسة الطفل في مجتمعه الأصلي و احتياجاته ومطالبه في النمو، والتي كثيرا ما تتأثر بالبيئة التي يعيش فيها . ودعم البحوث حول أفضل التنظيمات المنهاجية و أكثر الطرق ملاءمة للخصوصيات المحلية.
وفي مقابل تلك المواقف ،نشطت آراء تدعو ، نظرا لظروف العولمة و المصير المشترك الذي أصبح يربط البشرية جمعاء ، إلى عولمة المناهج (المنهاج العالمي ) بحيث تصمم على أسس و محاور تتعدى حدود المحلية و الاقليمية وتنخرط في مواضيع تمثل القاسم المشترك في كل مكان و لجميع سكان العالم .
و الحقيقة أن هذه الإشكالية يمكن أن تجد حلا لها ، في صياغة مناهج متطورة تراعي مبادئ التوازن و الوسطية :
– التوازن بين المحلي والعالمي ؛
– بين الفردي و الاجتماعي ؛
– بين الأصيل و المعاصر ؛
– بين التكنولوجي و الانساني ؛
– بين النظري والتطبيقي…

– مناهج متطورة ، تراعي ما يرسخ الهوية والخصوصية و يثري في نفس الآن ، الشخصية بالانفتاح على الآخر و التعاون معه .
– مناهج مصممة وفق ميول الطلاب و احتياجاتهم و مطالب نموهم واحترام تطلعات المجتمع و قيمه ومبادئه ، بشكل متوازن .
– مناهج تتضمن طرائق تدريس حديثة تتيح للطلاب فرص التعلم الذاتي و البحث والاكتشاف و اعتبارهم منتجين للمعرفة و ليس مجرد مستقبلين .
– مناهج تشمل ليس فقط النشاط الصفي بل أيضا النشاط غير الصفي .
– مناهج تسعى إلى ترسيخ المهارات المعرفية و تعمل بتوازن ، على ترسيخ المهارات الحياتية و إقامة الروابط بين المواد الدراسية النظرية و المواد المهنية ، بما يساير متطلبات سوق العمل المحلية و الوطنية بل و العالمية و يلبي احتياجاتها من التخصصات و المهن .

=========================
المراجع

– الدريج محمد (1996) : ” مشروع المؤسسة و التجديد التربوي في المدرسة
المغربية ” ، ( جزآن ) ، دفاتر في التربية ، الرباط.
– الدريج محمد ( 2003) : ” مدخل إلى علم التدريس ” ( تحليل العملية
التعليمية ) ،دار الكتاب الجامعي ، العين .
– الدريج محمد ( 2004) : ” التدريس الهادف ” (من نموذج التدريس
بالأهداف إلى نموذج التدريس بالكفايات ) ، دار الكتاب
الجامعي ، العين .
– اللقاني أحمد حسن (1995) : ” تطوير مناهج التعليم “، عالم الكتب ،
القاهرة .
– منى مؤتمن (2003) : “إعداد مدير المدرسة لقيادة التغيير “،مركز الكتاب
الأكاديمي ، عمان .
– نجيب كمال (1993) : ” إصلاح التعليم بين التبعية و الاستقلال ” مجلة
التربية المعاصرة ، العدد28، سبتمبر 1993.

– عبيد وليم و مجدي عزيز ابراهيم (1999) :” تنظيمات معاصرة للمناهج “
( رؤى تربوية للقرن الحادي والعشرين )، مكتبة
الأنجلو المصرية ، القاهرة.
– الوكيل حلمي أحمد (1999) :” تطوير المناهج “، دار الفكر العربي، القاهرة
– وزارة التربية والتعليم ( 2002) ” التخطيط بنظام الوحدة الدراسية ” مجلة
رسالة التربية ” ، مسقط ، العدد الثاني ،نوفمبر .
– وزارة التربية و التعليم (2003) : ” المؤتمر الدولي حول تطوير التعليم
الثانوي ” (وثيقة تطوير التعليم الثانوي ) ، مسقط.

– هوانة وليد (1998):”المدخل إلى المناهج الدراسية” ذات السلاسل،الكويت .

– Astolfi j. p. (2001) : “ Eduquer et Former “ , Edi.Siences
Humains , Paris
– Britt-Mari Bath ( 1997) : ” L apprentissage de l abstraction “
Retz .Paris .
– Gardner H . ( 1997) : ” The unschooled mind : How children
think and how schools should teach ” ,
New York ;Basic Books.
– Rey B. (1998) :” Les competences transversales en question “
E.S.F. Paris .

إعداد : الدكتور محمد الدريج
كلية علوم التربية – الرباط