كل المواقف والقضايا تحتمل الإدارة بمنطق السياسة ، بمعناها الاحترافي والحرفي ، ما دامت تقبل الحسابات الظرفية ، ومنطق التوازنات والمصالح الضيقة ، غير أن هذه القاعدة تعتبر مرفوضة قطعا حين يتعلق الأمر بالتربية بمعناها العام ، أو بالمجال البيداغوجي كإطار لتصريفها ، وتعتبر أكثر رفضا حين يتعلق الأمر بمقومات الوطن وعناصر هويته ، إذ السيادة التي من أجلها تكافح الأمم والشعوب تصبح بدون معنى .
مناسبة هذا الكلام هو العناد الذي ركبه بعض المسئولين في وزارة التربية الوطنية ، وإصرارهم على الوصاية على خيرة أطر هذه الوزارة ، من الذين خبروا التربية من الداخل ، وراكموا تجارب غير هينة في مجال التأطير والتأهيل . فضدا على ما نص عليه المرسوم المنظم للمراكز الجهوية للتربية والتكوين ، والقاضي بجعل امتحان التخرج من المراكز ومباراة الدخول أمرا موكولا لهذه المؤسسات ، تعده وتشرف عليه بناء على ما أنجزته من تكوين ، وما هيأته وفق المواصفات المطلوبة من المتخرجين ، فضلت الوزارة ، في شخص بعض المسئولين، أن تعتمد تخرجة خاصة لامتحان التخرج ، لا تملك سندا قانونيا ولا بيداغوجيا ، مستنفرة من أدواتها ما يكفل لها ذلك .
فعلاوة على عدم استمزاج رأي الغالبية من العاملين بالمراكز والفاعلين المباشرين ، وعدم معرفة أوضاع التكوين عن قرب ، والمجالات التي همتها بالفعل ، اختارت وضع معايير لمواد التكوين لا سند لها ، فجعلت الفرنسية في الابتدائي في رأس القائمة ، لتقلب المعادلة ، وتدافع عن نقيض الهوية ،عوض أن تحرص عليها. هكذا أصبحت الفرنسية إجبارية لأساتذة التعليم الابتدائي ، وباقي المواد الأخرى متكافئة المستوى ، يتم اعتماد القرعة للامتحان فيها . اخترت استصغار المكونين ، حين فرضت عليهم نموذج الامتحان ، وجعلتهم منفذين فقط ، مثلما اختارت أن تشعر المتكونين بكون الامتحان غاية في ذاته ، لتكرس النموذج التقليدي للتقويم ، بعيدا عن المهنية المتغنى بها سابقا ، واختارت بعد هذا وذاك اعتماد وضعيات افتراضية، وليس حقيقية تعاش وتلمس ميدانيا ، لترجع عقرب التكوين لنقطة الصفر.
إن العناد حين لا يبالي بمصلحة الوطن ، يعتبر في نظرنا مغامرة غير مأمونة العواقب ، ما دام تفكير المسئولين في التقويم لم يأخذ بعين الاعتبار المنطلقات ومسار التكوين ، واكتفى بالتوقعات والأهداف . ولذلك مهما كانت حكمة المسئولين في ما يريدون الإقدام عليه ، فقد زكوا بممارستهم وفعلهم هذا الكذب والنفاق ، حيث لا أحد سيخلص لأطروحتهم على مستوى التنفيذ ، بل أنتجوا امتعاضا من جعلهم الفرنسية معيار النجاح وعدمه ، اللهم إلا إذا كان ذلك مؤشرا على انقلاب في رؤية حزبين محافظين من الأغلبية عرفا بدفاعهما عن العربية ، وأنهما بذلك سينالان تقديرا من فرنسا التي تجتهد الكثير من الدول التي عانت من استعمارها في أن تعيد الاعتبار للغتها الوطنية والقومية قبل الفرنسية .
في كل الأحوال لا حكمة في ما قرر شكلا أو مضمونا . ولذلك ننصح بتواضع مسئولينا أن يتجاوزوا كبرياءهم والاستماع للأساتذة المكونين ، فهم أدرى بواقع التكوين وسبل تقويم منتوجهم ، وفي ذلك احترام للمرسوم المنظم للمراكز والذي يستوجب ربط المسئولية بالمحاسبة . إلى ذلك الحين ننتظر تدارك هذه الزلة وإرجاع الأمور إلى نصابها وتفويت الفرصة على التاريخ الذي لن يسجل إعطاء الامتياز للفرنسية على أنه صرامة علمية ، بل استخفاف بالهوية .