الخطر الإسلامي
الواحدية الفكرية في الثقافة المدرسية المغربية
أستاذ باحث في السوسيولوجيا وعلوم التربية
المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين. آسفي
________________________________________
لم يفتأ الحديث عن تزايد التشدد الديني يطفو كل مرة إلى الواجهة، وعلى الخصوص داخل الأوساط الصحافية، وهو التناول الذي طغى عليه نوع من التخوف من امتداد تجارب مؤلمة، إلى المجتمع المغربي، ومن تم سيطرح لا محالة السؤال : كيف يمكن أن نواجه أمرا كهذا ؟ هل يمكن أن نوقف زحف التطرف والنزعة الواحدية في الرأي… إلى غير ذلك من المتاهات التي يمكن أن نلجها بسبب توسع دائرة التشدد الديني ؟ وهي الأسئلة التي نحاول أن نتناولها بالمقاربة من خلال هذه المساهمة.
والواقع أننا لا ندعي من خلال هاته الورقة المتواضعة حمل هذا التحدي والإجابة عن هذه الأسئلة، وإنما نطمح إلى تبين بعض السبل التي يمكن أن تساهم في تبصر خيوط النور إلى ذلك.
لقد بدا لنا في العديد من الدراسات السابقة سواء التي أشرفنا على إنجازها أو قام بها باحثون آخرون، أن الحركة الإسلامية بشكل عام هي ظاهرة شبابية بامتياز، على اعتبار أن جل متعاطفيها، حتى لا نقول أتباعها ومنتميها، ينتمون إلى الفئات الشابة. مادام أن هاته الحركة تستغل الفراغ الذي تعيشه هاته الفئة لتتسرب إليها، وهي ترفع شعارات الدفاع عن المهمشين، ومهضومي الحقوق والهوية المشتركة، وتفتح بذلك للعديد من الفئات المهمشة قوسا للتعبير عن ذاتها وعن احتياجاتها، وتوفر لها بذلك فتحة تخرج منها إلى ضوء المجتمع والبحث العلني عن المشروعية الاجتماعية للتواجد والمشاركة في تسيير حياة المدينة.
فتجد الفئات الشابة في الإسلام منبعا أيديولوجيا مجانيا وسهل التناول، فتغترف من دلالاته ومفاهيمه، عاملة بذلك على صياغة مطالب تمتد من الاجتماعي إلى السياسي، فيغدو الإسلام كما لاحظ ذلك العديد من الباحثين، أمثال مونيا بناني الشرايبي، وليلى بابس، وجيل كيبل وغيرهم، قنطرة تمتد من الاجتماعي إلى السياسي وتمكن الفئات الشابة من ذلك العبور أيضا.
من الواجب إذن في هذا الخضم البحث عن وسائل فعالة لقطع الطريق عن الاستغلال المؤدلج للدين من أجل إثارة الفتن والزج بالمجتمع كله في دوامة العنف، تحت شعارات الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسنحاول أن نتبصر من خلال ما يلي إحدى الإمكانيات المهمة، خصوصا في الوقت الراهن، يتعلق الأمر بتوظيف المؤسسة التعليمية لخدمة روح الاختلاف والديموقراطية وحرية التعبير والرأي، اللحظة الأولى في سبيل بناء المجتمع الحداثي.
لقد أبرزت المدرسة الوظيفية، رغم المؤاخذات الكثيرة التي أخذت عليها، الدور الذي يمكن، ويجب أن تلعبه المؤسسة التربوية في خدمة المجتمع، من أجل خلق مجتمع متجانس ومتوازن، فجعل منها دوركايم واحدة من بين أهم المؤسسات التي يجب أن تخضع للمراقبة من أجل المساهمة الفعالة في خلق المواطن أو الكائن الاجتماعي السوي. لذلك فقد أراد لها دوركايم وجون ديوي أن تكون مجتمعا مصغرا تعيد إنتاج المجتمع في كليته، وعلى غرار ذلك يمكن أن نتبصر بأن صورة المجتمع في كليته تتجسد من خلال مؤسسته التربوية، التي ترتهن الاختلالات التي تتخللها مستقبل المجتمع في كليته.
هكذا إذن يجب أن تساهم المدرسة المغربية في خلق الكائن الاجتماعي السوي والقادر على الاندماج في محيطه وتمثله بشكل ايجابي، وذلك من خلال العمل على القطع مع العديد من نقط الضعف التي تعاني منها المؤسسة التعليمية المغربية، على مستوى التنظيم والبرامج التربوية.
1/ بث الروح الديموقراطية في التسيير التربوي داخل المؤسسات، وذلك بالعمل على القطع مع ماضي التراتبية العمودية التي تسود المؤسسات التربوية، والتي تبعد التلاميذ / الشباب عن المساهمة في تسيير المؤسسة واتخاذ القرار، حتى في اللحظات التي تكون هاته الأخيرة تهمهم بالأساس. ومن تم العمل على إرساء علاقات أفقية وتكافئية بين مختلف مكونات المشهد المدرسي: من إداريين، أساتذة، تلاميذ … الخ.
إذ لا زالت صورة “السي ـ سيد” رابضة في قلب المؤسسة التربوية حيث ما زال أغلب الفاعلين الإداريين والمدرسين يتقمصون صورة الأب التقليدي أو البطريك الذي لا يفهم إلا لغة العصا، ولا يقبل بلغة الحوار والتفاهم، مما يجعل العلاقة الاجتماعية العمودية هي الوحيدة المقبولة أو المشروعة داخل جذران المؤسسة التعليمية، والحقيقة كما يقول أحمد بوجذاذ أنهم نتاج مجتمع التسلط والعنف، ويعملون على تكريسه وإعادة إنتاجه لا غير.
2/ زرع ثقافة الاختلاف في البرامج التربوية، عبر آليتين أساسيتين: تتمثل الأولى في إعادة النظر في الأساليب التلقينية التي تتأسس على الإملاء والحفظ، التي سادت ردحا طويلا من الزمن في التعليم المغربي التقليدي، والتي تعمل بالأساس على تخريب روح المبادرة في الشباب، وتحرمهم من لحظات التعبير عن الذات وتقوية حضورها، وتجعل منهم مستهلكين أغبياء للخطاب المدرسي الذي عليهم أن يتقبلوه كمعرفة مسلم بها، لا تقبل النقاش ولا الرد، مما يقتل فيهم الروح النقدية والإبداعية، ويربي فيهم الاستعداد لتقبل كل ما يملا عليهم دون التفكير فيه وتمحيصه، الأمر الذي يجعلهم لقمة صائغة في أيدي رواد الواحدية الفكرية المحتملين.
وتتمثل الآلية الثانية في تخليص العديد من البرامج والمواد المدرسة من النزعة الدوغمائية التي تتخللها، ويمكن أن نمثل لذاك بما يلي :
• التاريخ : والذي يعد بحق تجسيدا لما سبق أن قلناه، على اعتبار أنه يلقن كمجموعة من المسلمات، والأحداث التي لا روح فيها ولا حركة، إلى حد يغدو اقرب إلى الفكر الأسطوري، الذي يسرد أعمال الآلهة. بل يعمل في العديد من الأحيان إلى إضفاء نوع من القدسية والتعالي على أحداث الماضي، مما يجعلها من جهة بعيدة عن إعادة البناء والتفسير، والمناقشة والتقييم، ومن جهة أخرى ممجدة بشكل يجعل التلميذ رهبنا بماضي خرافي أشبه بالفردوس المفقود، فيصبح الماضي يدرس كغاية في ذاته بدل أن يكون وسيلة لفهم الحاضر والاسترشاد به لتحديد معالم مستقبل سيحمل الأفضل بقدر ما نستفيد من ماضينا لخدمته والمساهمة الفعالة في تحديد معالمه بالشكل الذي يحقق ما نصبو إليه.
لقد سجل تعريب التاريخ والجغرافيا لحظة قطيعة مع تدريس هاتين المادتين بالفرنسية ـ حسب باعقيل ـ قطيعة على مستوى المسيرة والتصور، ذلك أن التعريب المصاحب بالتقوية الشاملة للذاكرة، للتذكر على حساب الفهم وعقلنة الأحداث، التأويل الأخلاقي واستدعاء القيم الجماعية والوطنية مهما كانت مشروعة، كل ذلك لا يفتح إلا على قاعدة لإلباس العلاقات الاجتماعية طابعا أخلاقيا. تغطي إذن هذه الأهداف الوطنية أدلوجة رسمية لتدريس التاريخ. هكذا، فاستدعاء الروح الوطنية الذي تظل وظيفته الإدماجية منشودة لا يمكن إلا أن يندمج في هذه النظرة التي تريد أن تجعل من التاريخ الوطني، لهذا الفضاء الموروث عن الأجيال السابقة، موضوع عبادة وليس موضوع صراع، إن هذه النظرة الأيديولوجية تذهب أبعد من هذه الحدود، ذلك أنها بالسير على هذا الهدى تقوم بتقديس السلطة وضرورتها. إن هذه الأمور توجد خفية أو مدسوسة في الكتب المدرسية حيث اتساع أرض الوطن ووحدته تتوقف على الثبات السياسي والخضوع للسلطة المركزية، بينما يلحق تجزؤ الوطن وخضوعه للضغوط والسيطرة الأجنبية بالمنافسات السياسية والانتفاضات أو الثورات الاجتماعية.
• التربية الإسلامية: وهو الدرس الذي يعرف تجمع العديد من السلبيات من مثل :
1) اعتماد الدرس على الحفظ، لأن المعارف التي تقدم من خلال الدرس هي أمور قطعية ونهائية لا يمكن إعادة النظر فيها أو جعلها موضع المساءلة والمراجعة، بل إن جعل بعضها كذلك يعد من قبيل الطابو والمحرم.
2) طرح مواضيع بعيدة عن المعيش اليومي للتلاميذ/الشباب، أو على الأقل لا ترقى إلى مجال انشغالاتهم وهمومهم، وهي بالأساس مسائل فقهية بسيطة ومبتذلة أحيانا، بل يرى فيها البعض من التلاميذ معرفة عامية، أي أن العامة خارج جدران المدرسة يعرفون بشكل جيد حل المشاكل التي يطرحها مقرر التربية الدينية، كما هو الشأن بالنسبة لدرس الإرث الذي يشغل حيزا كبيرا من وقت التلاميذ في مسائل جامدة ومتحجرة، وقليلة الفائدة، على الأقل مع الحيز الزمني المخصص لها.
3) سيادة التصور السني الأشعري، وهو في حد ذاته تعبير عن الواحدية الفكرية، وإقصاء لمفهوم الاجتهاد والاختلاف، مما يجعل الفكر الديني يبدو جامدا متعلقا بماضي أصيل يظهر الواقع اليومي للشباب أن قاطرة التحول التي يعرفها العالم تجعل هذا الماضي يزداد بعدا عنا ولا يمكن بأي شكل من الأشكال تحيينه، مما يضفي على الوضع طابعا أسطوريا وخرافيا.
في هذا السياق، يلاحظ عبد اللطيف الفلق أن المواجهة بين توجهات 1979 وتوجهات 1973 و1976 تؤدي إلى ملاحظتين بارزتين، تظهران العلاقة المباشرة التي تجمع بين صياغة التوجهات وتطور الخطاب والحقل السوسيوسياسي المغربي :
• ففي لحظة أولى، رغم تقديم “الاعتداء الأيديولوجي”، و ضرورة الصراع ومواجهة أخطار ضعف الشعور الديني، فإنه يلاحظ تراجع ملحوظ للقاموس الدفاعي وأسلوب المواجهة. هذا التراجع يظهر استراتيجية خطاب تجد محركاته البعيدة مرجعيتها في الحركة الفكرية التي أقلقت الحقل السوسيوسياسي المغربي خلال سنوات السبعينات والتي مست بالأساس الشباب المتمدرس والطلابي، هذه الحركة التي ستترعرع غداة 1968، ستبلغ أوجها في سنة 1973 وستؤدي إلى قرارات مهمة على مستوى السياسة المدرسية بالخصوص. وستعرف هذه الحركة الموسومة بالأيديولوجيا الماركسية والداعية إلى مواجهة أو معارضة راديكالية للواقع الاجتماعي وللسياسة المدرسية، نجاحا في أوساط الشباب، خصوصا في المدن الكبرى. وقد أدت، من جهة أخرى، إلى تعبئة شاملة وشديدة من قبل الأجهزة الإيديولوجية للدولة. ولن تمثل هذه الحركة المقموعة، المفتتة أي تهديد حقيقي محتمل في سنة 1979.
• في لحظة ثانية، يلاحظ حذف مفهوم “الوطن العربي” كبعد مرجعي مرتبط بالترسيخ الديني. ويظهر في التوجهات لفظ أمة ( الذي يحيل ضمنيا على الأمة الإسلامية ) دون أي تدقيق. إن الأمر يبدو مثيرا إذا علمنا أنه في مراحل سابقة كانت العروبة أمرا لا ينفصل عن الشعور الإسلامي، بل أبعد من ذلك، كانت التوجهات تعلن أن تكوين مواطن مغربي فخور بالعروبة والإسلام، ومنفتح على العالم هو الهدف الحتمي للتربية الإسلامية.
هكذا يبدو التعليم الديني، في نظر عبد اللطيف الفلق، متصورا كأداة مفضلة لإعادة التسليح الأخلاقي. إن الأمر لا يتعلق فقط بتلقين مبادئ الإسلام، قواعد العبادة والمذهب الديني، ولكن بالمعنى الدقيق للفظ بتأديب، تخليق وتهذيب يجب أن يرتكز على الوقاية من المخاطر التي تتربص بالشباب : التقليد الأعمى ( لأخلاق الغرب )، الأيديولوجيات التي تقود إلى الشكية وإلى الإلحاد، الانحراف والارتشاء، وتبعا لذلك التقاليد الظلامية والخرافات التي تسيء إلى مبادئ الإسلام، ومع ذلك، فإن هذه المخاطر مقدمة بطريقة مجردة دونما علاقة أو رابط بواقع سوسيوسياسي محدد. ويبدو من المثير للانتباه أن هذا البعد الاجتماعي للمشاكل المطروحة لا يظهر في أي لحظة. إن الخطاب بني في مجمله على تعارض مجرد بين الدين الحنيف والتهديدات أو المخاطر التي تترصد الإنسان المسلم. يقوم هذا التعارض المتكرر كنموذج للفكر الإسلامي المنبث في المقرر وفي الخطاب المدرسي، وعبره تترسخ صورة صراع أسطوري : إنه الإسلام الحنيف في مواجهة كوكبة من التهديدات والمخاطر التي تؤثر على الإيمان والاستقامة الأخلاقية للشباب. تتلبس التربية الدينية المبنية بشكل مجرد على اعتبارات تكون نوعا من التهذيب، ومجردة من كل إشارة إلى أي نزعة إصلاحية اجتماعية، طابعا شبه وقائي للحماية الأخلاقية والإيديولوجية.
4) تناول المواضيع وكأنها محلولة منذ البداية ولا تطرح أي مشكل، مما يجعل التلميذ لا يستطيع أن يفعل أكثر من أن يحفظها ويعيد صياغتها بشكل أوتوماتيكي، يغيب ذات الشاب، ويبعده عن صياغة الإشكال والمساهمة في حله،
5) إجراء مقارنات دوغمائية ولا معقولة من أجل تكريس تفوق التصور الأشعري، كالمقارنة بين واقع المرأة الغربية الحالي والنموذج الإسلامي كما هو مرسوم في النصوص الشرعية المؤسسة، أي مقارنة بين تصور مثالي مبثوث في النصوص الدينية والفقهية وواقع إنساني معيش، وذلك من أجل إبعاد إمكانية المقارنة بين واقع المرأة المعيش في كلتا المجتمعين.
• الفلسفة والفكر الإسلامي: ولا يختلف الأمر هنا كثيرا عن ما يجري في درس التربية الدينية، إذ تتكرر قريبا نفس المشاكل، والتي يتلخص أهمها في:
1) طرح إشكالات بالغة التجريد، وبعيدة عن مشاغل الشباب، على اعتبار أن أغلب الدروس بعيدة، من جهة كل البعد عن باقي المدروس في المواد الأخرى، ويطرح المشكل بالخصوص في الشعبة العلمية، على اعتبار أن الدرس الفلسفي في واد وباقي المواد والاهتمامات الشبابية في واد آخر، ومن جهة أخرى بعد المقرر عن الحياة اليومية للشباب المتمدرس، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن مواد المقرر تعكس في مجملها المقرر الفرنسي في السنة النهائية، ولكن في غياب التعدد في البرامج الذي يعرفه هذا البلد، وفي غياب الحرية التي تتمتع بها هيأة التدريس، وغياب الإمكانيات المتاحة للتلاميذ في مجال البحث المعرفي والإمكانيات المعرفية المكتسبة عبر المسالك التعليمية السابقة.
وهو الأمر الذي تصفه أسية أقصبي عندما تعلن أن محتويات المقررات المدرسية توجد على مسافة بعيدة من الواقع اليومي للتلاميذ، إذ لا تشارك الخطابات التربوية المنبثة في مختلف المضامين والممارسات البيداغوجية المدرسية في التفتح الفردي، كما أن القيم المعلمة أو الملقنة تثير الانتباه بطابعها المطلق، بعيدة عن الواقع وعن الواقعي، بعيدة عن الصراعي ومتبصرة للتربية بطريقة بطولية، تضحوية، استبعادية أو مغوية للأنا الأعلى، وهي بذلك تدير الظهر للخطابات التربوية المعاصرة والمنتشرة خارج فضاء المدرسة. ذلك أن كل من تجربة الحياة اليومية، وسائل الإعلام، والتعليم الذي تمارسه الوسائل السمعية البصرية، كل ذلك يثير الشباب بشعارات مختلفة، وتظل قريبة من الواقع المعيش لهم.
2) نقص عدد الساعات المقررة، في نفس الوقت الذي تبرمج دروس كثيرة، مما يجعل الدرس لا يختلف كثيرا عما هو ساري الفعل في درس التاريخ والجغرافيا، أعني الحفظ والإملاء، مما يبعد درس الفلسفة عن أهم مقوماته وأهدافه، على اعتبار أن هذا الدرس يجب أن يستحضر مقومات الفكر الفلسفي، وعلى الخصوص بناء إشكالات، الحوار، اعتماد تقنيات الإقناع والحجاج، بناء الدرس بشكل جماعي، وبشكل يجعل التلميذ حاضرا بقوة في مسار بناء الدرس، مما يجعل الأستاذ لا يتعدى أن يلعب دور المحرك والمنشط، أو دور سقراط في المحاورات الأفلاطونية، وليس أن يكون مركز الدرس، الممتلك للمعرفة والناقل لها، مما يغيب التلميذ ويخون روح الدرس الفلسفي.
3) إضعاف محتويات الدروس المعرفية، من خلال اعتماد المادة المدرسة في الأغلب على نصوص مقتطعة، لتدرس في سياقات أخرى مختلفة عن تلك التي أنتجت فيها، وبعيدا عن الواقع السوسيوثقافي الذي أنتجها، مما يجعلها غامضة، مجردة ولا معنى لها.
4) الأدهى من ذلك أن درس الفلسفة يسقط أحيانا في مطب خدمة أهداف أيديولوجية تبعده عن مبتغياته وأهدافه، كما لاحظ ذلك مصطفى محسن الذي يبرز في البداية أن وضع مقرر مادة ما، لا يهدف فقط إلى توصيل معرفة ما، بشكل محايد، ولكن يهدف بالأساس إلى تقديم معرفة معينة، معرفة قصدية وهادفة، معرفة تحمل عناصر أدلوجة الطبقة المهيمنة، بتعبير عبد الله العروي. في هذا السياق، يقسم مصطفى محسن الخطاب المدرسي إلى بعدين: البعد المعرفي ـ المعلوماتي، والبعد الاجتماعي ـ الأيديولوجي، أي ما يحيل عليه الخطاب من ثقافة وتصورات ثقافية مرتبطة بالنسق الثقافي ـ الأيديولوجي السائد في المجتمع.
إن إخراج المقرر، في نظر مصطفى محسن، لا يمر في هدوء، ذلك أن المؤلفين يخضعون في نهاية المطاف لأهل السلطة السياسية وواضعي السياسة التعليمية الرسمية. الأمر الذي يبلور إرادة جعل الكتاب المقرر رسميا ينسجم مع تلك الأهداف المتوخاة من إقراره وترويجه.
لقد قامت الجهات الرسمية في 1978/1979 بإنجاز كتاب مدرسي جديد في الفلسفة سمي: الفكر الإسلامي والفلسفة بدل الفلسفة أو الفلسفة والفكر الإسلامي، ودمج المادتين اللتين كانتا مفصولتين سابقا، هكذا ألغي مقرر الجابري وجماعته، والذي وصف بأنه مقرر غير حيادي في عرض المعارف، مما جعله يشحذ الوعي السياسي للتلاميذ، وكان من وراء انتفاضة وتمرد التلاميذ خلال منتصف السبعينات، سواء في المدارس أو الكليات. وقد همش المقرر الجديد الفلسفة وأعطى أهمية أكبر للفكر الإسلامي الذي أصبح يمتحن فيه رسميا، أي عدم طرح أسئلة في الفلسفة إلى حدود الهيكلة الجديدة للدرس الفلسفي في أواخر الثمانينات.
عرف المعطى التراثي حضورا قويا انطلاقا من الكتاب المدرسي لسنة 78/79، بل إن هذا المعطى التراثي ( الفكر الإسلامي /الإسلام ) سيهيمن بشكل كبير وسينفي الفلسفة الإنسانية ( الفكر الغربي ) التي لن تصبح إلا أفكارا وآراء معارضة للفكر الإسلامي، وقد تم تزويد كل الفقرات والمحاور بالعديد من الخلاصات والخواتم التي تنتهي، في نهاية المطاف، إلى تأكيد مواقف سلفية تضحد الفلسفات الأخرى، وهو الأمر الذي يقوض ادعاء المؤلفين بالعرض الموضوعي، الحيادي، وغير المتحيز للأفكار التي ترد في الكتاب المدرسي الخاصة بالسنة السادسة، وهو الواقع الذي يستمر من خلال مقرر السنة السابعة والذي يمكن تلمسه من خلال بعض النقط :
• دعم الموقف السني الأشعري على حساب الموقف العقلاني التنويري المعتزلي.
• إجلال الفكر السني الأشعري، و نصرة الغزالي على الفلاسفة الذين اعتبروا أقرب إلى الفكر اليوناني منه إلى الإسلام.
• التمييز في التصوف الإسلامي بين السني المقرب إلى الأشعرية والفلسفي المرفوض والمرجع إلى اليونان والغنوصية.
• جعل الفكر الإسلامي متعالي عن الفلسفة الغربية على اعتبار أنه استطاع حل إشكالية الفكر والواقع نهائيا، مع تناسي الواقع السوسيوـ ثقافي الذي أنتج كلا الفكرين.
• تبجيل اللغة العربية، وجعل الفكر الغربي مجرد تكرار لمشكلات طرحها وحلها مفكرو الإسلام سابقا.
ويخلص مصطفى محسن إلى ربط علاقة حميمية بين الثقافة المدرسية، أو التوجه الكامن في مقرر الفلسفة والأدلوجة الرسمية مؤكدا أن النظرة التقديسية للتراث تكرر نفسها من خلال هذا المقرر، تلك النظرة التي لا تحاول فهمه في زمنيته الخاصة، ومنطقه الخاص والمتميز، وبنيته الاجتماعية المحددة، بل باعتباره النموذج والمعيار المطلق والنهائي، غير القابل للتجاوز والذي على أساسه تقاس جميع الرؤى والتصورات المخالفة، وتلك نظرة لا تصمد، في نظر الباحث، أمام النقد الإبستمولوجي والاجتماعي معا. إن هذا التصور السلفي الجديد يكاد يصبح سمة السمات المميزة “للثقافة الرسمية” في المغرب خاصة، والتي تحاول الفئات الاجتماعية السائدة نشرها وترويجها وجعلها “النسق الثقافي المهيمن”، وإن كانت ما تزال لم تمتلك بعد من خصائص الوحدة النسقية والانسجام ما يجعل منها ثقافة مندرجة في مشروع مجتمعي متكامل، واضح المعالم والسمات، والهدف الأساسي من توظيف هذه التصورات هو احتواء كل الفئات الاجتماعية الأخرى، واستجلابها لاستساغة ما تمارسه عليها السلطة المهيمنة من قهر ثقافي واجتماعي. إن الفلسفة المدرسية في المغرب، كثقافة فرعية ومكون من مكونات “النسق الثقافي الرسمي”، لا تخرج، في توجهاتها ووظائفها عن هذا النطاق.
ويتمظهر الجانب الأيديولوجي للخطاب المدرسي، ونزعته التراثية السلفية، أيضا، من خلال تناوله لإشكالية القيم، عندما يجعل الموقف الإسلامي وبنيته القيمية الأفضل، والحل للأزمة الأخلاقية الغربية، مادام يحل الإشكال القائم بين النظر والعمل. كما يؤكد المقرر على علو، تعالي ونزاهة التصور الإسلامي للعدالة، إذ هو الموقف الوسط بين الإفراط والتفريط، على عكس التصورين الليبرالي والاشتراكي. ويتكرر نفس الأمر فيما يخص قيمة السعادة، مفهوم الدولة، موضوع الملكية، الشغل. هكذا تبقى مرجعية هذا المقرر مرجعية مؤسسة على نظرة تقديسية وتمجيدية للترات، تطرحه منزها ومتعاليا عن تأثيرات الزمان والفضاء، وبالتالي متعاليا حتى على النقد المعرفي الإبستمولوجي والتجدير الاجتماعي.
ومن المسائل التي يعاني منها هذا البرنامج أيضا إبعاد المسألة الاجتماعية وإقصاؤها، إلى حد يبدو معه المقرر يسبح في عالم عاجي بعيد عن محيطه وعن المجتمع الذي يلقن فيه. ويخدم تغييب المسألة الاجتماعية من الكتاب المدرسي ـ على مستوى أهدافه المضمرة ـ مرامي التوجهات الرسمية في إخفاء الصراعات الاجتماعية بين الطبقات والفئات والشرائح، ومن تم الرغبة في تحقيق هدنة وسلام اجتماعيين، كما تروج لذلك في فترة إنجاز المقرر، ومحاولة التمظهر بتبني قيم التراث في مجال التعايش “الوحدوي” والتكامل الاجتماعي، ويرى أساتذة الفلسفة، أنه نتيجة لذلك، يتم تهميش كل فكر فلسفي اجتهادي وحواري واستبداله بميت أيديولوجي ضمني يشغل التلميذ والمدرس معا بقضايا مجردة، بعيدة عن واقعهما المعيش، وموهما إياهما بأنه يقدم لهما فلسفة متعالية ومنزهة عن كل انتماء. إن هذا الواقع دفع مصطفى محسن إلى تأكيد أنه إذا كانت المؤسسة المدرسية في الغرب قد حققت في إطار الدولة الوطنية الوفاقية نوعا من الانسجام والتكامل مع المحيط الثقافي والمجتمعي الذي تندرج فيه، فإن الفصامية في المغرب، ما تزال قائمة بين الثقافة المدرسية ككل، وبين الإطار الاجتماعي والثقافي الذي تنخرط فيه.
إن وضعا كهذا يساهم بالأساس في خلق شباب بدون شخصية ولا ذات متميزة، لا رأي قار، ولا نظرة نقدية للعالم المحيط به والأفكار التي ترد إليه، بل على العكس من ذلك سيكون مهيئا بشكل جيد لتقبل كل ما يرد عليه، سهل الإقناع والاجتذاب، تابعا وإمعة، لأنه لا يمتلك رأيا خاصا ولا يتملك الإمكانيات التي تمكنه من تمحيص ما يرد إليه.
شباب كهذا سيجد نفسه في مهب الريح، يميل مع أول الهبات التي تصله، ولن يكون بعيد المنال عن الواحدية الفكرية التي تهب رياحها على هذا البلد السعيد، بل سيجد بالأحرى نفسه فيها، لأنها لن تكون سوى تتويجا لمسار التكريس الذي خاضه لسنوات طوال، سواء داخل الأسرة أو المدرسة، إنه سيكون مهيئا بشكل جيد لتقبل أفكارها والارتماء في أحضانها، ما دام لا يمتلك من المقومات ما يمكنه من تمحيص منطلقاتها، ولا تعلم من الحرية الفكرية وحرية الرأي والاختلاف ما يجعله يحتفظ بكيانه الشخصي.
===============================
بيبليوغرافيا مختارة :
المختار شفيق. المجتمع المضاد. دراسة ميدانية لبعض آليات تجدر الحركة الإسلامية في المجال القروي. إقليم قلعة السراغنة نموذجا. بحث لنيل الإجازة في علم الاجتماع. تحت إشراف الأستاذة رحمة بورقية. كلية الآداب والعلوم الإنسانية. الرباط. 1996.
المختار شفيق. “الحركة الإسلامية، المفهوم والدلالات. وحدة المتعدد أو الاختلاف المتوحش.”. مجلة فكر ونقد. عدد 51. شتنبر 2003. ص 51/58.
المختار شفيق. الشباب والتغير الاجتماعي. الأسرة، السياسة والدين. مطبعة الأمنية. الرباط. 2002.
أحمد بوجذاذ. ” محاولة حول بعض المجالات الأيديولوجية بالمغرب “. في المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي. عدد 3 . السنة الأولى. ص 91/76. 1987.
عبد الله العروي. مفهوم الأيدولوجيا. المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء. 1988.
مصطفى محسن. المعرفة والمؤسسة. دار الطليعة. بيروت. 1993. ص29/30.
A. Akesbi Mesfer. Ecole, sujets et citoyens. Edit Consulting. Casablanca. 1998. P15/16.
M. Bennani – Chraibi. ” Le Makhzen pris au piège. Le mouvement de Salé été – automne 1991 “. in Exils et royaumes. Les appartenances au monde arabo – musulman aujourd’hui. Collectif. Presses De La Fondation National Des Sciences Politiques. Paris. 1994. P 125/148.
M. Bennani – Chraibi. Soumis et rebelles, Les jeunes au Maroc. Le Fennec. Casablanca. 1995.
L. Babès. L’islam positif. La religion des jeunes musulmans de France. Éditions L’Atelier / Éditions Ouvrières . Paris . 1997.
A. Felk. “Idéal éthique et discours d’orthodoxie (dans l’enseignement marocain )”. in BESM. n°157. 1986. P173/174.
L. Ibaaquil. L’école marocaine et compétition sociale. Stratégie, aspiration. Babil Édition. Rabat. 1996.
G. Kepel. Le prophète et le pharaon. La Découverte. Paris. 1984.
G. Kepel. Les banlieues de l’islam. Seuil. Paris. 1987.
A. V. Haicht. L’école à l’épreuve de la sociologie. De Bosck. Bruxelles. 1993.
A. Laroui. Les origines sociales et culturelles du nationalisme marocain. (1830/1912). Centre Culturel Arabe. 1993.