المعلمون عبر التاريخ (2)

حميد بن خبيش19 يونيو 2013
المعلمون عبر التاريخ (2)

في العالم المسيحي ظل التعليم لردح من الزمن أسير التقشف الفكري و المادي الذي وطده القسيسون و رهبان الأديرة . و بلغ الأمر في القرن الخامس الميلادي حد المطالبة بالتخلي كلية عن تدريس الفتيان , فصار الناس يتفاخرون بأميتهم , و يرددون مقولة القديس أوغسطين” إن الجهلاء هم الذين يحظون بملكوت السماء” .
لكن مع بداية العصر المدرسي مطلع القرن الثاني عشر الميلادي سينشط الفكر الغربي من عقال , ويُدشن الامبراطور شارلمان حركة تعليمية رائدة هيأت لما عُرف لاحقا ب “النهضة الكارولنجية ” . فرغم أميته حرص على نشر التعليم في ربوع بلاده , وحث رجال الكنسية على أن يكونوا وقود الإصلاح الذي يخطط له قائلا” لقد رأينا من المفيد أن يُعنى في البطركيات و الأديرة بتعليم الآداب لمن هم قادرون على تعلمها بعون الله لا أن يُعنوا فقط بأن يُطبقوا في حياتهم قواعد الكتاب المقدس ” (1) . ويبدو أنه لمس فيهم عجزا عن النهوض بالشأن التعليمي كما يصبو إليه , فسارع إلى استقدام جمع كبيرمن علماء عصره و مثقفيه إلى بلاطه ب “إكس لا شابيل” ومنهم الشاعر الإسباني ثيودولف , و الانجليزي آلكوين الذي يمكن اعتباره اول وزير للتربية و التعليم !(2)
ورغم اختلاف المؤرخين بشأن أهمية النهضة الكارولنجية , إلا أن ما يُلفت الانتباه هو ما أبداه الامبراطور من حماس بالغ في الرهان على التعليم كمدخل لتحديث الامبراطورية. بل إن حشده لمثقفي عصره في سلك التعليم دليل على أن مشروعه النهضوي كان سيضمن لأوربا آنذاك نقلة حضارية مميزة لوتوفرت شروط استيعابه على أرض الواقع .
قبل نهاية العصر الوسيط ظهرت للوجود مراكز ثقافية , واتسعت دائرة المربين الميالين للتعليم المتحرر من وصاية الكنيسة , أمثال برنارد دي شارتر و فيكتوران دي فيلتر و غيرهما . إلا أن عصر النهضة شكل بحق فترة الانتقال إلى منظور حديث للتربية , و سعى إلى القطع مع تربية السجون التي دأبت الكنيسة على انتهاجها .
أظهر مارتن لوثر , قائد حركة الإصلاح الديني , عناية واضحة بإعداد المعلمين لتحجيم سلطة الكنيسة التي لم تفلح أديرتها سوى في تخريج الحمير و البلهاء على حد تعبيره ! وبالغ في تمجيده للمعلم و للدور الحضاري الذي يضطلع به ” لولا المعلمون ما رأينا بين ظهرانينا واعظا ولا فقيها و لاكاتبا و لاطبيبا و لا حكيما , فهؤلاء جميعا غرس المعلم و ثمرة أعماله و جهوده . إن المعلم النشيط الذي يخلص في العمل و يراقب الله في واجبه , و يبذل قوته ويرضي ضميره في مهنته , تعز مكافأته , و كل ما يُغدق عليه , وإن كثر , ضئيل في جانب أياديه علينا ومعروفه فينا ” (3) . ولم يشذ رواد المذهب الإنساني بعده عن الحث على إجلال المعلمين , وتوسيع هامش حريتهم في إدارة العملية التعليمية .
ومع “كومنيوس” سيبدأ التنظيم الدقيق و العملي للمدارس , ففي كتابه” فن التعليم العظيم” يلح على أن يكون المعلمون من خريجي كليات التعليم العالي , وأن يتحرروا في ممارساتهم التعليمية من أساليب القهر و الخشونة التي وسمت تربية الأديرة طيلة العصر الوسيط .
خلال القرن الثامن عشر سيظهر كتاب “إميل” لصاحبه جان جاك روسو , مبشرا بميلاد ما اصطلح عليه “التربية السلبية ” أي تلك التي تنهض فيها الطبيعة وحدها بمهمة التعليم بينما يكتفي المربي بدور مسير الآلة . وهي نفس الفكرة التي تتردد اليوم , حسب الدكتور عبد الله عبد الدائم , في الاتجاهات التربوية الحديثة , حيث يقف المعلم عند حدود الإرشاد و التوجيه , تاركا للأطفال مهمة قيادة العملية التربوية (4)
اتسعت دائرة الانشغال بالتربية خلال القرنين المواليين , لا كتأملات فلسفية بل كحقل علمي له أسسه العقلية و تطبيقاته العملية المحددة . وأسهم علم النفس بحظ وافر في جعل اهتمامات وميول الأطفال محور التربية الحديثة .فأضحى لزاما تأهيل المعلمين الأكفاء , القادرين على تشرب مباديء علم نفس الطفل , و ترجمتها إلى تطبيقات أصيلة .و الذين يواجهون المشكلات المعقدة داخل الفصول بقدر كبير من المرونة و الوعي .و الذين يتخطون عيوب التربية التقليدية الممثلة في صهر الناشئة في قوالب معدة سلفا , صوب العمل على تنمية العقول المبدعة , و تغذية الميول و التطلعات .
يقودنا هذا الفرش التاريخي إلى استخلاص حقائق عديدة تمكننا من فهم الصراع المفتعل اليوم بين المعلم و المجتمع. وتضيء زاوية معتمة بشأن موجة الهجوم على المدرسة العمومية .
تتمثل الحقيقة الأولى في كون رجل الشارع البسيط لازال أسير الصورة المثلى التي وسمت أدوار المعلمين في فترات تاريخية سابقة . فهو برأيه الساحر الذي يُفجر الطاقات و يُكسب المعارف الجمة و يُعدل السلوكات الخاطئة بضربة خفيفة من عصاه السحرية .
وهو رجل الدين أو الكاهن الذي يحرس القيم و القناعات و الثوابت حتى و إن تضافر الجميع على إنكارها و إسقاطها بضربة لازب .
وهو العالم النحرير الذي اصطفاه الخلفاء و الملوك لتأديب الأمراء و أبناء الحاشية , و عليه اليوم أن يستحضر هذا الاصطفاء في فصول مكتظة بالعشرات من أبناء البسطاء!
الحقيقة الثانية أن أي مشروع نهضوي أو منعطف حضاري حاسم لا بد أن يتكيءعلى حركة تعليمية رائدة يديرها معلمون أكفاء , وهو ما يفرض توفير مستلزمات الجذب و الإغراء التي تستحث العناصر الجيدة و الكفاءات النوعية على تفضيله لا كوظيفة فحسب , بل كمجال للعطاء و الإبداع .
الحقيقة الثالثة أن قدر المعلمين هو تأدية الواجب حتى في أحلك الظروف , وأن ما يترتب على الجهل من فظائع أسوأ بكثير من الوضع المزري الذي يكتنف أحيانا أحياانأداء رسالة التعليم خصوصا في البوادي .
الحقيقة الأخيرة أن إنضاج الشروط الكفيلة ببلوغ تعليم جيد لا يمكن أن يتحقق بجهد المعلم أو بفعل مقترح وزاري أو مخطط حكومي فحسب , بل هو رهان مجتمع بأكمله , ومشروع أمة تعتزم حقا النهوض من كبوتها الحضارية .
إن المجتمع الإنساني اليوم أحوج ما يكون إلى المعلم , عكس ما يذهب إليه المفتونون ببدائل التكنولوجيا . صحيح أنه فقد سلطته المعرفية في عصر المعلومات , لكنه لم يفقد سلطة التوجيه و الإرشاد . لقد أصبحت مهمته , كما يؤكد الدكتور نبيل علي , مزيجا من مهام المربي و القائد ومدير المشروع البحثي و الناقد و المستشار و المخرج السينمائي و مدير المسرح (5) . وهو ما اعتبرته المديرة العامة لمنظمة اليونسكو “إيرينا بوكوفا” تحديا ينبغي كسبه في شتى دول العالم ” إن التحدي الضخم الذي يواجه مهنة التعليم إنما يتعلق بسد الفجوة في أعداد المعلمين وضمان معايير جودتهم. فما زالت دول العالم بحاجة إلى ما يقرب من 6.8 مليون معلم من أجل تحقيق تعميم التعليم الابتدائي بحلول عام 2015. وهناك قضايا أخرى تؤثر على المدرسين في كافة مستويات النظم التعليمية، وفي ما يتعلق أيضاً بأوضاع التعليم النظامي وغير النظامي، بما في ذلك العنف المتزايد وظروف التقشف وخفض النفقات، فضلاً عن الحاجة إلى ضرورة تحسين ظروف العمل بحيث يتسنى اجتذاب ذوي الكفاءات للانخراط في مهنة التعليم “.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) د.عبد الله عبد الدائم : التربية عبر التاريخ . دار العلم للملايين . بيروت 1984. ص 114
(2) أينهارد : سيرة شارلمان . دار حسان للطباعة و النشر . دمشق 1989 . ص 16
(3) د. عبد الله عبد الدائم . مرجع سابق . ص 306
(4) المرجع السابق . ص 384
(5) د.نبيل علي : الثقافة العربية في عصر المعلومات . المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الآداب . الكويت 2001.ص 344