مقدمة
يكتسي موضوع محاربة العنف أهمية بالغة وخاصة في نفس الوقت بالنظر إلى الاختلالات التي تعرفها منظومة القيم ، لا سيما في بعدها الاجتماعي والتربوي ، بحيث أضحت الكثير من العلاقات ذات الصلة بالمدرسة تعرف مزيدا من التوتر، انعكس سلبا على مجال التواصل بأبعاده المختلفة ، وأصبح الجميع يوجه أصابع الاتهام ذات اليمين وذات الشمال ، دون أن تكون لأحد الجرأة في تطهير الذات بالكشف عن زلاتها مادام ”التائب عن الذنب كمن لا ذنب له ”.
إن ما نشاهده ونسمعه يوميا من عنف فردي أو جماعي ، في حق الأستاذ أو التلميذ أو في حق المدرسة ككل لينذر بأوخم العواقب ، لأنه يهدد النسيج المجتمعي برمته ، ما دامت المدرسة المؤسسة الثانية بعد الأسرة في دائرة التنشئة الاجتماعية ، تتأثر بالمجتمع وتؤثر فيه، بل يراهن عليها في تنظيم العلاقات وشرعنتها أخلاقيا . فما أعظم مسئوليتها في هذا الباب وما أعقد دورها أمام ما حدث ويحدث .
إن مشكلة العنف لا تهم الفرد وحده مدرسا أو تلميذا، ولا الأسرة ، ولا المدرسة ، ولكن تهم مستقبل المجتمع في نوع العلاقات التي ينبغي أن تسوده ، في نوع الإنسان المنشود، في القيم والضوابط التي ينبغي أن تحكم علاقات الأفراد والجماعات ، تهم الكيان الحضاري للأمة . لذلك يعتبر التفكير فيها تفكيرا في البناء المجتمعي ، وسعيا لإرسائه على دعائم قوية وأسس صلبة ، ولعل المدخل لذلك هو التحديد الدقيق للمشكلة وإبراز العناصر الفاعلة فيها ، ثم تحديد مظاهرها المختلفة وسبل معالجتها والوقاية منها. وذاك ما تروم هذا الموضوع المساهمة فيه.
عرفت الإنسانية جمعاء ظاهرة العنف ، وسجل تراثها العديد من الآراء والمأثورات التي يستنير بها الباحثون من جيل لجيل ، ونستطيع أن نعرض من ذلك الشيء الكثير ، فهذا النبي محمد عليه السلام مثل ما ورد في سنن أبي داود يفضل الرفق واللين ويستهجن العنف فيقول مخاطبا زوجته عائشة : ” يَا عَائِشَةُ ارْفُقِي فَإِنَّ الرِّفْقَ لَمْ يَكُنْ فِي شَىْءٍ قَطُّ إِلاَّ زَانَهُ وَلاَ نُزِعَ مِنْ شَىْءٍ قَطُّ إِلاَّ شَانَهُ ” وهذا معاوية بن أبي سفيان الخليفة الأموي يعبر عن مستوى من الاستيعاب الجيد للعملية التواصلية ، حيث يقول: ” لا أستعمل سوطي ما دام ينفعني صوتي ، ولا أستعمل صوتي ما دام ينفعني صمتي ” وذلك ما يؤكده أيضا في معرض سعيه لاستمالة رعيته : ” عجبت لمن يطلب أمرا بالغلبة وهو يقدر عليه بالحجة ، ولمن يطلبه بحنق، وهو يقدر عليه برفق ، ألا ترى أن الماء على رقته يقطع الحجر على شدته ” أما الأديب والمفكر الإنجليزي شكسبير فيقول : ” شق طريقك بابتسامتك ، خير لك من أن تشقها بسيفك ” ، وقد اشتهر الزعيم الهندي في استراتيجيته النضالية لمقاومة الاستعمار، برفضه العنف ، ونهج أسلوب أكثر جدوى ، حيث يقول : ” العنف تطعمه اللامساواة ، واللاعنف تغذيه المساواة ” ، والأمثلة كثيرة في التاريخ والتراث الإنسانيين ، تدعو إلى نبذ العنف وتجنبه ، نكتفي بما ذكرناه منها لنعود إلى إضاءة المفهوم والبحث عن الخصائص والمقومات التي تشكل سمات وعلامات عليه ، مبتدئين في ذلك بتقصي الدلالات اللغوية قبل المتابعة الاصطلاحية .
مفهوم العنف ، قراءة نقدية
جاء في لسان العرب حول العنف ما يلي : العنف ”هو الشدة والقوة، وهو الخرق بالأمر وقلة الرفق به، وهو ضد الرفق . أعنف الشيء أي أخذه بشدة ” وورد في المعجم الوسيط : ” (عَنُف ) به وعليه عنفا وعنافة أخذه بشدة وقسوة ولامه وعيره ” . أما جميل صليبا فقد أورد في معجمه الفلسفي أن العنف : ” لجوء غير مشروع للقوة ، وأنه فعل مرادف للشدّة يؤدي إلى إلحاق الأذى بالآخرين ” . كما أورد أيضا أن” العنف فعل مضاد للرفق ، ومرادف للشدة والقسوة ، والعنيف (violent) هو المتصف بالعنف ، فكل فعل يخالف طبيعة الشيء ، ويكون مفروضا عليه من خارج فهو ، بمعنى ما ، فعل عنيف“ .
يتبين من التأمل في التعاريف الواردة في المعاجم الثلاث أنها جميعها ربطت العنف ببعض الخصائص التي تعتبر سمات عامة تميزه ، وهي القوة والشدة والقسوة ، وهي كلها صفات ، و بغض النظر عن ما يحركها أو ما تسعى إليه ، لا مكان فيها لمشاعر الرأفة واللين.
أما على المستوى الاصطلاحي فيعرف العنف بأنه ” استخدام الضغط أو القوة استخداما غير مشروع ، أو غير مطابق للقانون من شأنه التأثير على إرادة فرد ما ” .
ويعرفه المفكر الفرنسي بول ريكورPaul Ricoeur بقوله : ” العنف يتجه في مساره بوضوح أو بغموض ، بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، إلى السيطرة على الآخر والهيمنة على مقدرات وجوده ” .
وتعرفه الباحثة المصرية شلبي فاطمة عبد الستار بأنه ” كل سلوك قولي أو فعلي يتضمن استخدام القوة أو التهديد باستخدامها لإلحاق الأدى بالذات أو بالآخرين أو إتلاف الممتلكات والبيئة لتحقيق أهداف معينة“.
ويرى تعريف آخر أن العنف ” هو كل سلوك متعمد تجاه الآخر يترتب عنه إيذاء له . والإيذاء قد يكون ماديا أو معنويا ، يصاحبه ألم من لدن المستهدف ، سواء كان مباشرا أو غير مباشر“ .
وعلاوة على ما تضمره هذه التعاريف من معان غير بعيدة عن الدلالات المعجمية ، فإنها تشير إلى بعض الخصائص التي يتميز بها العنف كمفهوم ، ومنها :
– أنه ممارسة غير طبيعية ،بل ضد الطبيعة الإنسانية وضرب لإنسانية الإنسان ؛
– سلوك خارج القانون والنظام المؤسساتي ، مما يجعله سلوكا غير مشروع ؛
– استغلال للسلطة وتجاوز غير مقبول لها ؛
– سيطرة على الآخر وتجاهل لكينونته واغتصاب وضرب لحقوقه ؛
– إفراط في القوة ، مما يجعله إيذاءا للآخر وإصابته بألم ؛
– رغبة ظالمة وقتل لقدرات الآخر وضرب لها ؛
إننا مهما اقتربنا من مفهوم العنف ، وأحسنا إضاءته ، فلن نكون قادرين على إلغاء الاختلاف حول دلالاته من جهة ، وتنوع المضامين التي يشير إليها من جهة أخرى ، فهو في ذلك حصيلة اختلاف المداخل المعتمدة في مقاربته ، ومرجعياتها الفكرية وأسسها النظرية وخلفياتها، مما ينعكس على الموقف منه ومن أسبابه ، وهكذا نلاحظ تباينا في تفسيره وأسبابه ومظاهره بين العديد من النظريات نعرض له كما يلي :
– المقاربة البيولوجية ، وترى أن العنف سلوك إنساني يعكس الطبيعة الإنسانية ، حيث الدافع إليه نابع من قوة غريزية تحدث تلقائيا ؛
– المقاربة السيكولوجية ، وعندها أن العنف يحدث نتيجة استجابة لمثير خارجي تتحكم فيه غريزة العدوانية لدى الفرد ، ولذلك فهو تعبير عن انفعال غير صادر عن العقل ؛
– المقاربة الاجتماعية ، وعندها أن العنف سلوك مكتسب في الحياة الاجتماعية ، تعززه وتدعمه عوامل اجتماعية (التعرض للعدوان الأزمات الاقتصادية ، الإحباط ..)
– المقاربة السياسية ، وترى أن العنف استخدام للقوة بغاية الاستيلاء على السلطة أو المحافظة عليها أو استغلالها لأهداف مشروعة أو غير مشروعة .
– المقاربة التكاملية ، ويرفض أصحابها التفسير الأحادي للعنف ويعتبرونه محصلة مجموعة من العوامل يرجع بعضها إلى عوامل بيولوجية وبعضها إلى عوامل نفسية ويرجع بعضها إلى عوامل اقتصادية واجتماعية ، لأن السلوك يعد استجابة لموقف معين مرتبط بالفرد ككائن اجتماعي ، يعيش في أوساط اجتماعية عديدة هي الأسرة والمدرسة والنادي وغيرها ، ويتأثر بعوامل متعددة كالعوامل الوراثية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية ، وغير ذلك من عوامل كثيرة متعددة ومتداخلة ”
مجالات العنف
العنف يمس كل مجالات الحياة الإنسانية ، الفردية أو الاجتماعية ، مادام يعتبر مظهرا من مظاهر التعبير الإنساني حيث نجد ما يلي :
العنف الاجتماعي – العنف الثقافي – العنف السياسي – العنف العسكري – العنف الاقتصادي – العنف الإعلامي – العنف التربوي – العنف الجنسي – العنف المهني – العنف الأسري – العنف الرياضي – العنف المدرسي – العنف في الأمكنة العامة – العنف ضد الأطفال – العنف ضد الشيوخ – العنف ضد المرأة – العنف الديني …
أسباب الالتجاء للعنف
تتعدد أباب العنف وتتنوع حسب العوامل الفاعلة في شخصية ممارس العنف ، بين اجتماعية وثقافية وقانونية ونفسية، وتتجسد في ما يلي :
– العجز في مواجهة موقف من المواقف ؛
– افتقاد الحلول البديلة للمشكلات ؛
– الضعف في التواصل والعجز عن التعبير بالوسائل السلمية والطبيعية ؛
– ردود الفعل غير الحكيمة وغير المتزنة ؛
– عدم التشبع بثقافة الحقوق والثقافة الديمقراطية ؛
– عدم الثقة في الأفكار والقناعات والسعي إلى فرضها بالإكراه باعتقاد في مردودية العنف ؛
– الاعتقاد بكون العنف مهما وسهلا في ضبط النظام ؛
– الرفض أو الجهل بالحوار وقواعده ؛
– الاعتداد بالنفس وعدم الاعتراف بالآخر كذات إنسانية تملك حقوقا ؛
مظاهر العنف
للعنف مظهران :
– مادي ، ويتمثل في ما يلحق الفرد من ضرر وأدى جسمي ، يتجسد في الضرب أو الحرق أو الخنق أو القتل ..أو غير ذلك مما يمكن أن يترك أثرا على وضعية المعنف الجسمية ، أو في ما يصيب مصالحه وحقوقه عن طريق دوسها، أو ممتلكاته من خلال مصادرتها أو إحراقها أو إتلافها ..
– معنوي وتعكسه التأثيرات التي تصيب المعنف في مشاعره وأحاسيسه وتفكيره ، ويندرج ضمنه الكلام البذيء والسب والسخرية والاحتقار والإهانة والتهديد والنبذ ، أو الصراخ في وجهه ، أو مخاطبته باستعمال الكلام الفاحش الجارح للمشاعر والعواطف، الخادش في الكرامة ، أوغير ذلك مما يحدث قلقا وتوترا في البنية النفسية للفرد مثل البرود العاطفي واللامبالاة والإهمال …
انعكاسات العنف
تتعدد انعكاسات العنف تبعا لنوعه ومستواه والمستهدف منه ، فتكون :
– إما فردية مادية ، تهم الصحية الجسمية والنفسية للمعنف ، وما يمكن أن يطاله فيها من ضعف، أو اختلال أو عجز،أو اضطراب في المشاعر، أو إصابة بالقلق والتوتر، أو الخوف والشعور بعدم الأمن ، أو الإحساس بالدونية وعدم الثقة في النفس ، وقد ينتج عن ذلك ضعف في القدرة على التركيز والتفكير السليم .
– أو اجتماعية ، تجسدها الاضطرابات والتوترات التي يعرفها المجتمع ، والاختلال في العلاقات بين أفراده وجماعاته ، مثلما تظهر في بروز أنواع من العصبيات ، مما ينتج عنه غياب التساكن ، والميل للتحكم والتهديد المستمر للمصالح وارتفاع الجريمة.
– أو ثقافية ، تتجسد في الاضطراب التي يلحق منظومة القيم ، حيث تطفو على السطح الأنانيات والمصالح الشخصية ، وتصبح القوة أساسا للعلاقات ، وتغيب الثقة وينعدم الأمن ، ويسود الخوف والحذر في العلاقات ، وتكثر نزعات العدوانية والرغبة في الانتقام.
– أو اقتصادية ، وتتجلى في زيارات الأطباء ، وما تتطلبه من تكاليف مادية ونفقات ، وفي تدني المردودية المهنية، أو في ضعف الفرص الاقتصادية ، وفي تزايد نفقات السجون ومراكز الإرشاد وإعادة الإدماج ، فضلا عما يترتب على العنف من خسائر مادية ونفقات .
العنف في المجال البيداغوجي
قد يبدو من المفيد البحث عن جواب للسؤال الإشكالي المتعلق بعلاقة العنف بالبيداغوجيا ، فهي باعتبارها نظرية تطبيقية في التربية ، ترتبط بالمدرسة كمؤسسة قائمة في أصلها على التهذيب والتعليم ، أي أنها لا تسعى إلا إلى توجيه المتعلم ، لينشأ نشأة سليمة وقويمة ، لا يضر فيها بنفسه ، ولا بالآخرين . فبأي معنى يمكن الحديث عن العنف في المجال البيداغوجي ؟ وما موقعه من العنف المدرسي ؟ ألا يمكن اعتبار ذلك نوعا من المفارقة لأنه ضد طبيعة المفهوم ؟
في تعريف العنف المدرسي :
هو ”كل سلوك مخالف للنظام المدرسي ، أو خرق للقانون الجاري به العمل داخل المؤسسة التعليمية.
هو تعد قاس على نظام المؤسسة المدرسية ، وخرق للقواعد المتبعة في الحياة الاجتماعية .
هو ” مجموع السلوكيات العدائية غير المقبولة اجتماعيا والتي من شأنها أن تؤثر سلبا على النظام العام للمدرسة سواء مورست داخل حرم المؤسسة التربوية أو خارجه ”
” هو أي سلوك يتسم بالعدوانية الظاهرة أو المقنعة في المدرسة ، ويترتب عنه أدى بدني أو نفسي أو جنسي على التلميذ ”
تطالعنا في التعاريف السابقة مما وردفي العديد من المواقف والمرجعيات التربوية ، جملة من الخصائص التي يتميز بها العنف المدرسي ، وهي كالتالي :
– فيه عدوانية ظاهرة أو مقنعة ؛
– العنف تصرف غير مقبول اجتماعيا ؛
– تعد قاس على نظام المدرسة ؛
– خرق وتجاوز لقانونها ولقواعد الحياة الاجتماعية ؛
– ترفضه ضوابط المؤسسة المدرسية ؛
– مخالف لنظام المدرسة ؛
– مهدد له ؛
– قد يحصل داخل المدرسة أو خارجها ؛
– يترتب عنه أدى للتلميذ ؛
وهذا يعني أن العنف مهما كان المستهدف منه في المجتمع المدرسي ، فهو يشكل تهديدا للمدرسة بوعي أو بدون وعي ، مما يستوجب الانتباه إلى خطورته على نسيج المدرسة ، ومن خلالها على النسيج المجتمعي، باعتبار المدرسة مؤسسة أساسية في التنشئة الاجتماعية ، تضع قوانينها التي ينبغي أن تحترم ويصادق المجتمع أخلاقيا عليها ، ويحرص على حمايتها والانضباط لها ، معتبرا كل تجاوز أو تعد عليها هو تعد على قواعد المجتمع وقوانينه .
خصوصية العنف في المجال البيداغوجي
في الحديث عن العنف المدرسي يطرد كثيرا العنف المادي والعنف المعنوي ، وقد حظيا باهتمام بالغ من لدن الدارسين ، غير أن هناك نوعا ثالثا ، يتميز بكونه يتخفى خلف الكثير من المواقف والتعابير والممارسات ، ويملك خطورة كبرى ، سواء في تسلله لعمق الوعي الإنساني ومناطق اللاشعور، أو في صعوبة إدراكه ومقاومته ، لأنه يملك عناصر دعمه وتغلغله ، ويتجسد في العنف الرمزي ، وهو الذي يظهر أو يضمر في الممارسة البيداغوجية.
فما هو هذا النوع من العنف ؟ وما هي أبرز سماته ومظاهره ؟ وما هي انعكاساته؟ وكيف يمكن مقاومته والوقاية منه ؟
العنف الرمزي هو أي ” نفوذ يفلح في فرض دلالات معينة، وفي فرضها بوصفها دلالات شرعية، حاجبا دلالة القوة التي تؤصل قوته ”
يقوم العنف الرمزي على علاقة بين المدرس والمتعلم قوامها السلطة ، غير أنها سلطة مقبولة اجتماعيا ومؤسساتيا ، لأنها مسنودة بالكفاية التي يملكها المدرس ، ويفتقدها المتعلم ، وهي كفاية مهنية تستوجب من المدرس تحصيلا كافيا من المعرفة ، وسعيا مستمرا لتجديدها ومواكبة الجديد منها ، مثلما تستوجب تجديدا بيداغوجيا ، ومؤهلات علمية ، وتشبعا بالروح الديمقراطية في مراعاة الخصوصيات. وقد اعتبر هذا العنف ذكيا لأنه يتوارى خلف هذه السلطة ، ويكتسي مشروعيته منها ، ساعيا إلى إضفاء طابع الشرعية على القيم والمعاني الرمزية ، الصادرة في الغالب عن قوى اجتماعية متمركزة في موقع الهيمنة والسيادة . لذلك يسعى دائما إلى ”توليد حالة من الإذعان والخضوع عند الآخر بفرضه لنظام من الأفكار والمعتقدات“
مظاهر العنف في الممارسة البيداغوجية
للعنف مظاهر متعددة يتم تداولها في الأوساط المدرسية في سياق نقد الممارسة البيداغوجية ، كما يتم الحديث عنها في الأوساط الأسرية ، وفي العديد من المنتديات والمنابر الثقافية ، لوقعها على الناشئة ، ونوع التأهيل المنتظر منها ، لكن السعي لإيقافها يتطلب قرارات مؤسسية ذات صلة بالتوجهات العامة في مجال التربية ، وهي في الغالب قرارات تمس السياسة التربوية في أبعادها الفلسفية. ومن هذه المظاهر ما يلي :
مظاهر مرتبطة بالسلطة التربوية ، يدخل ضمنها ما يأتي :
– عنف المنهاج الدراسي لأنه يتجاوز في كثير من أوجهه طاقة المدرس والتلميذ ، ولا يأخذ بعين الاعتبار فوارق الجهات والمؤسسات والأفراد ؛
– عنف نظام الامتحان الذي لم تستطع مختلف التجديدات التربوية أن تنزع شبحيته ونظام التقويم بصفة عامة؛
– عنف ذو صلة بتدبير الزمن المدرسي وزمن التعلمات ، بحيث لا مجال فيه للخصوصيات الجهوية والإقليمية ولا لخصوصيات المتعلمين ، وإنما تتحكم فيه إكراهات ذات صلة بالعنصر البشري والتجهيزات ومتطلبات العمل ، مما يولد لدى المدرس والتلميذ معا غضبا وإحباطا حين يعجزان عن تنفيذه، فيتجهان إلى الأسلوب الذي يحميان به نفسيهما ويدافعان عنها ، وهكذا ينتج الغش والكذب والتحايل .
– عنف مرتبط بتدبير الإمكانيات المادية والبشرية ( ظاهرة الاكتظاظ ، والأقسام متعددة المستويات ، وأقسام ذوي الحاجات الخاصة ) حيث تطرح نوعا من الإرغامات التي لا يملك المدرس والتلميذ معا إلا الانصياع لها . وفي ذلك تعد ولو غير مقصود على حقوقهما وشخصيتيهما ، حيث أكد هورلمان Hurlman في تقرير أعده حول العنف لمؤتمر بروكسيل ، أن العنف المدرسي هو كل ما ”يغطي النشاطات والأفعال التي تؤدي إلى الألم أو إلى الأذى الجسدي والنفسي عند الأشخاص النشطين في أو حول المدرسة ” .
مظاهر عنف مرتبطة بالمدرس ، وتتمثل في ما يلي :
– تكليف التلاميذ بما فوق طاقاتهم من الفروض والمهام ؛
– طريقة التعامل معهم القائمة على التمييز على أساس الجنس أو الطبقة أو القدرات ، أو الاستعدادات أو الميولات ، دون مراعاة للظروف التي أنتجت ذلك ؛
– عدم إشراكهم في العديد من المواقف والقرارات التي تهم اختياراتهم التعلمية ؛
– الحرمان من الكلام ؛
– فرض الصمت داخل الحصة وأثناء الدرس؛
– بعض العقوبات التأديبية المتمثلة في الأعمال المنزلية أو الإخراج من حجرة الدرس أو التوجيه إلى الإدارة ، في حالة عدم القيام بمهام معينة أو واجبات دون تكليف النفس تحري الحقيقة ؛
– التوحيد المطلق للتقويم ؛
– التهديد بالامتحان ؛
– تغييب الحوار أو تهميشه تحت درائع مختلفة ، مثل الحاجة إلى إنهاء المقرر أو الالتزام بالوقت المخصص للدرس أو استصغار وجهة نظر التلميذ . وقد يكون ذلك بسبب التبرم من سماع رأيهم إذا كان مخالفا ؛
– تغيير القسم ؛
– تغيير مكان الجلوس؛
– توزيع خاص للمتعلمين يبنيه المدرس على ما يتصوره فقط ؛
– المنع من المشاركة في بعض التظاهرات المنظمة على صعيد القسم أو المؤسسة ؛
– التقدير السيء لمشاركة بعض التلاميذ (الضحك منها ، السخرية ، تجاهلها …)؛
– اعتماد النقطة كأداة للضعط على التلاميذ كلما رغب المدرس في استجابتهم ؛
– منع التلاميذ من الدخول إلى القسم ؛
– التحكم في علاقته بالمكان (عدم دخول المدرسة قبل سماع الجرس والخروج من القسم في حالة عدم وجود الأستاذ بل الخضوع للعقاب إذا وجد في القسم )؛
– عدم التعامل الفردي رغم الخصوصيات ؛
– تعمد وضع المدرس مسافة بينه وبين التلاميذ بعضهم أو كلهم ؛
– عزل أو استثناء التلاميذ في مواقف معينة ؛
– عدم إشراك التلاميذ في ما يحدث داخل المؤسسة؛
– عدم تثمين أعمالهم ؛
– وجود العصا في القسم ؛
– المدح المفرط للنماذج التقليدية؛
– خلق أوضاع شعورية للمتعلم يحس معها بالدونية أو العجز أو نوع من القلق العاطفي؛
– فرض الأفكار بالقوة ؛
– مواجهة بعض المتعلمين ببرود عاطفي متمثل في اللامبالاة أو الإهمال؛
– عدم مراعاة الظروف الخاصة بالمتعلمين ( مستوى رؤيتهم – وضعهم الصحي – انسجامهم داخل المجموعات )؛
– المنهجيات المعتمدة وعدم استجابتها للخصوصيات (الفروق الفردية )؛
– المحتوى وسلطة تنظيمه ؛
– مدى احترام الحاجات والميولات في التواصل …
أسباب العنف في المجال البيداغوجي
تتعدد أسباب العنف وتختلف باختلاف مصادرها ، لذلك يمكن تقسيمها إلى ما يلي :
أسباب مرتبطة بواضعي السياسة التربوية :
حيث يمكن أن يكون العنف نتيجة لما يلي :
– الفلسفة التربوية القائمة على المحافظة وإعادة إنتاج نمط العلاقات السائدة والتي تخدم رؤية الطبقة السائدة ؛
– الخدمات التي تقدمها المدرسة لمجتمعها ؛
– طبيعة التكوين الذي يهيأ للفاعلين التربويين والذي من أهم سماته السرعة والكثافة والسطحية ، والنقص في المعرفة بخصوصيات المتعلمين وقوانين نموهم ، وكذا طبيعة الظروف المتاحة لهم لتعميق تكوينهم؛
– طريقة إجراء الامتحانات وأدوات التقويم المعتمدة ؛
– طبيعة بناء المناهج والتوجهات العامة التي تحكمها ؛
– الطرق التربوية السائدة ؛
– الدور المنوط بالمدرسة ، كمؤسسة للتنشئة الاجتماعية ، والعلاقة التي رسمت لها مع باقي مؤسسات المجتمع ؛
– طبيعة المحتوى الدراسي المعتمد والذي لم يعد في كثير من جوانبه يستجيب لحاجات التلميذ ومتطلبات العصر ، ولم يعد مثيرا ؛
– غياب مدونة للقيم والسلوك تعلي من شأن الحرية وتنظمها لتجعل اختيارات المتعلمين محكومة بها، وتعتبر كل تعد عليها فيه عنفا على المتعلم ؛
– الفراغ القانوني أو عدم بلوغ مرحلة التعاقد في العلاقة التربوية ، بحيث يراعي كل طرف من أطراف هذه العلاقة حقوقه وحقوق الآخرين وواجباته وواجباتهم كذلك ؛
– الضغوط التي تعرفها الحياة المدرسية ؛
– عجز المدرسة عن غرس القيم المثلى التي تنظم العلاقات ؛
– الاكتظاظ؛
– ظاهرة الأقسام متعددة المستويات بدون سند بيداغوجي .
أسباب مرتبطة بالمدرس ، وتتمثل في الآتي :
– ضعف في التأهيل والتكوين ، ويترتب عنه ما يلي :
– عدم معرفة الحاجات النفسية والاجتماعية للمتعلمين ؛
– العجز عن اختيار الأسلوب الملائم للتعلم؛
– عدم اختيار الأنشطة الملائمة؛
– التعود على عدم إشراك المتعلمين في تهييء شروط تعلمهم ؛
– عدم إتاحة الفرصة أمامهم للتعبير؛
– عدم احترام آراء المتعلمين؛
– اعتماد طرق تدريس تقليدية قائمة على التلقين أساسا ؛
– عدم التشبع بثقافة الحوار واستيعاب متطلباتها .
– ضعف القدرات التواصلية ؛
– العجز عن ابتكار أو اعتماد حلول بديلة للعنف؛
– التاريخ التربوي للمدرس وما يحمله من ترسبات في شخصية متعلميه ذات صلة بالعنف ، حيث يعتبر انعكاسا لتربية التسلط المعاشة في الطفولة ؛
– طابع القداسة الذي يحرص المدرس على إحاطة نفسه به وفقا للثقافة السائدة ؛
– الرفض المطلق لدى بعض المدرسين لكينونة مخالفة لكينونتهم ؛
– الضغوط الاجتماعية والمهنية التي يخضع لها وانعكاساتها السلبية ؛
– ردود الفعل السريعة وغير الحكيمة ؛
– عدم التشبع بثقافة الحق والواجب ؛
– تمثل المدرسين السلبي لأدوارهم ووظائفهم (موظف كغيره يتقاضى أجرة)
أسباب مرتبطة بالتلميذ ، وتتمثل في ما يلي :
+ السعي لإثبات الذات في مجتمع يحس أنه لا ينصفه ؛
+ الرغبة في ممارسة الحرية كحق طبيعي ؛
+ رفض قوانين الكبار التي يحس أنها جائرة ؛
+ رفض القداسة التي يحيط بها كثير من المدرسين أنفسهم ؛
+ التمرد على القواعد الجامدة وكذا القوانين ؛
+ عوامل الكبت العامة وما يتولد عنها من ردود فعل .
أسباب عامة وتتمثل في :
+ غياب التواصل بين الأسرة والمدرسة ، وما ينتج عنه من سوء فهم للآخر؛
+ ضغوط الحياة العامة والمدرسية ؛
+ المؤثرات الاجتماعية والثقافية ؛
+ التأثيرات الإعلامية التي تمارس سلطتها على المدرس والمتعلم معا ؛
+ حالات اللاستقرار التي تعرفها الكثير من المؤسسات التعليمية في روافدها، وفي مواردها البشرية وفي تنظيماتها ؛
+ غياب ثقافة الحوار في المجتمع .
انعكاسات العنف في المجال البيداغوجي
للعنف انعكاسات كثيرة ومتعددة الأبعاد في المجال البيداغوجي ، فهي تنعكس على المتعلم كما يلي :
+ تصيبه بخوف وقلق دائم؛
+ تفقده الثقة في ذاته؛
+ تعطل طاقة التفكير والإبداع لديه ؛
+ تؤثر على تكيفه الاجتماعي؛
+ تؤثر سلبا على تحصيله؛
+ تجعله يعزف عن المشاركة في أنشطة المدرسة؛
+ تجعله يتأخر عن المدرسة وقد يهرب منها؛
+ تهدد أمنه النفسي ؛
+ يكره المدرسة وكل ما له علاقة بها؛
+ تدفعه في المواقف الحرجة إلى الكذب ليتجنب العنف؛
+ تخلق لديه توترا زائدا ؛
+ يتشتت انتباهه ويغيب تركيزه؛
+ يتشكل لديه مفهوم سلبي تجاه الذات وتجاه الآخرين ؛
+ يصبح عدوانيا تجاه الآخرين؛
+ ينطوي وينعزل ؛
+ يقوم بردود فعل انتقامية ومختلفة الحجم والمستوى كلما أتيحت له الفرص ؛
+ يرفض الانضباط ؛
+ تسيطر عليه مشاعر الاكتئاب ؛
+ يفقد كل جاذبية تجاه المدرسة ؛
+ يتغيب شيئا فشيئا ؛
+ تؤدي إلى تسربه ؛
سبل معالجة العنف
وضعت منظمة اليونسكو ،اعتمادا على ما توصلت وتتوصل به من تقارير حول استفحال ظاهرة العنف ، ولا سيما في الدول المتخلفة ، وضعت إجراءات عشرة لمحارة الظاهرة ، يمكن العودة إليها في دليل محاربة العنف ، لكن هناك اقتراحات بيداغوجية نعتقد أنها تعزز تلك الإجراءات وتمهد السبيل لها ، ومن هذه الاقتراحات ما يلي :
* خلق تواصل فعلي بين الأسرة والمدرسة والبحث عن آليات أكثر نجاعة في ذلك ، بعيدا عن الحيطة والحذر اللذين لا معنى لهما في تصور المدرسة عن الأسرة والمحيط ؛
* اعتماد الإنصاف والعدل بين التلاميذ كمعيارين أساسيين في تقويم عمل المدرس ؛
* البحث عن صيغ مثلى لإشراك التلاميذ في ما يهم المدرسة وليس فقط النوادي ؛
* مراجعة التمثلات الخاطئة عن التلاميذ ومستويات وعيهم وإدراكهم ؛
* احترام كرامة التلاميذ وترجمة ذلك في كل المواقف والسلوكات التي يكونون معنيين بها ؛
* وضع مدونة للقيم يلح على احترامها في المؤسسة التعليمية ، ويتكفل بصياغتها فاعلون مختلفون مستأنسين بالمهتمين بعلم النفس وعلوم التربية ؛
* تأصيل ثقافة الحق والواجب واعتبار ذلك جزء مما يتلقاه المتعلم في التعليم ؛
* وضع ضوابط تأديبية على أسس من الموضوعية والحس التربوي وإشهارها للمتعلمين حتى يكونوا على بينة مما يترتب على سلوكاتهم غير المنضبطة ؛
* الحرص على إشباع رغبات المتعلمين العاطفية والتعليمية؛
* احترام طاقاتهم وميولاتهم وحاجاتهم وخصائصهم العمرية والعقلية وجنسهم ووعيهم ؛
* تجنب الحديث أمامهم عن المستقبل بصورة أكثر تشاؤما؛
* القيام بما يقتضيه الواجب تجاههم ؛
* بناء علاقات مع المتعلمين قائمة على الاحترام والحب،لأن ذلك ييسر تعلمهم مثلما كان المربي الهولندي إيراسموس يردد :” إننا نتعلم بيسر من الذين نحبهم ” ؛
* تنمية القدرة على الصبر والصمود لدى المتعلمين أمام صعوبات الحياة ومساعدتهم على التصدي لتحديات الحياة بصورة بناءة ؛
* اعتماد اللين في العلاقة مع المتعلمين لخلق مشاعر الرضا لديهم .