الصادقي العماري الصديق
التخطيط الاستراتيجي هو صنع الاختيارات. فهو عملية تهدف لدعم القادة لكي يكونواعلى وعي بأهدافهم ووسائلهم. وبذلك فالتخطيط الاستراتيجي هو أداة إدارية، ولاتستخدم إلا لغرض واحد – مثل بقية الأدوات الإدارية الأخرى – ألا وهو مساعدةالمؤسسة في أداء عمل أفضل. ويمكن للتخطيط الاستراتيجي أن يساعد المؤسسة على أنتركز نظرتها وأولوياتها في الاستجابة للتغيرات الحادثة في البيئة من حولها وأنيضمن أن أفراد التنظيم يعملون باتجاه تحقيق نفس الأهداف. وبالطبع فالمقصودبكلمة ” استراتيجي ” هو إضفاء صفة النظرة طويلة الأمد والشمول على التخطيط.
و المدرسة في أساسها مؤسسةاجتماعية أنشأها المجتمعمن أجل التربية أو التنشئة الاجتماعية سعيا لتحقيق عمليات التنمية، بدأ من الفرد ووصولا إلى تنمية المجتمع الشاملة عن طريق تحقيق الاندماج في المجتمع عبر أدوار ووظائف اجتماعية فعلية ولن يتم ذلك إلا عبر تخطيط استراتيجي يأخذ يعين الاعتبار كل جوانب الإدارة. والفكر التنموي المعاصر لا يقتصر فقط في مفهوم التنمية على الجانب الاقتصادي بقدر ما يركز على جميع الجوانب التي تتعلق بالانسان بما فيها التربوي و السياسي و البيئي وعوامل أخرى، لذلك فإن أيتصور لهذه المؤسسة يجب أن يراجع من داخل إطار التصور الاجتماعي الشامل، ولاشك أنهذا التصور الأساسي يدفع لدراسة علاقة المتعلم بغيره من المتعلمين، وعلاقتهبالمدرسين، وعلاقته بالإدارة التربوية، و بالتنظيم العام من داخل المدرسة، لأنها الإطار الاجتماعي الذي له علاقة بما تحتويه من عناصربشرية، وما يوجد خارجها من تنظيمات اجتماعية أخرى –المؤسسات أو التنظيم الاجتماعي- بما فيها الأسرة. وبشكلعام يمكن القول بان المدرسة هي المؤسسة التي بفضلها يكتشف الفرد ذاتهومجتمعه.
أما المدرسة المغربية فقد أصبحت عاملا أساسيا في تحقيق التنمية البشرية والمتجمعية الشاملة، وذلك من خلال الاعتمادعلى فلسفات ومقاربات اقتصادية وتربوية واجتماعية عقلانيةوحداثية فعالة، ويمكننا أن نلمس هذا من خلال الميثاق الوطني للتربيةوالتكوين” يروم نظام التربية والتكوين الرقي بالبلاد إلى مستوى امتلاك ناصية العلوم والتكنولوجيا المتقدمة, والإسهام في تطويرها, بما يعزز قدرة المغرب التنافسية, ونموه الاقتصادي والاجتماعي والإنساني في عهد يطبعه الانفتاح على العالم.” (الميثاق. القسم الأول المبادئ الأساسية).
كما نجد بأن الاختيارات التربوية الموجهة لمراجعة مناهج التربية والتكوين المغربية الواردة في الكتاب الأبيض تنطلق من العلاقة التفاعلية بين المدرسة والمجتمع، باعتبار المدرسةمحركا أساسيا للتقدم الاجتماعي وعاملا من عوامل الإنماء البشري المندمج، ومنإعداد المتعلم المغربي لتمثل واستيعاب انتاجات الفكر الإنساني في مختلف تمظهراته ومستوياته، ولفهم تحولات الحضارات الإنسانية وتطورها، وإعدادالمتعلم المغربي للمساهمة في تحقيق نهضةوطنية اقتصادية وعلمية وتقنية، تستجيب لحاجات المجتمع المغربي وتطلعاته،وكذلك لكي يكون النظام التربوي المغربي في مستوى مواجهة تحديات العصرولتحقيق تنمية اجتماعية واقتصادية تضمن للفرد الإندماج في المجتمع،وقدرته على التفاعل في النسيج الدولي، كان لزاما عليه تبني فلسفة تربويةتضمن التربية المستدامة للفرد والمجتمع، مادامت التربية هي الموجهة والحاسمةفي كل نمو وكل تطور· ولحقيقأهداف وغايات التنمية المأمولة ،كان لزاما على المدرسة المغربية الجديدةتبني اختيارات تربوية وبيداغوجية حداثية وحديثة، أثبتت فعاليتها في دولأخرى، وخاصة اعتماد مدخل الكفايات لتحديث وتفعيل المنظومة التربوية والتكوينية المغربية، وبعلاقة مع المشروع التنموي المستدام وآمال النهضة المجتمعية الشاملة. لكن هل تمت ترجمة هذه التصورات النظرية المبرمجة مركزيا كما تم وضعها أم هناك عمليات تكييف وملائمة مستمرة حسب الوسائل و التقنيات و المتطلبات المحلية؟ وكيف يمكن للمدرسة المغربية أن تكون وسيلة من وسائل تحقيق عملية التنمية
إذاكانت الأهداف التنموية المرسومة ضمن أي قطاع من قطاعات المجتمع تقتضيعملية التخطيط لها، كل على حدة، فإن تخطيطا شاملا ينبغي أن ينتظم كلالقطاعات، حتى يحصل التكامل وتنتفي العبثية والإهدار، ومن ذلك، التكامل،والتنسيق الذي ينبغي أن يتحقق بين المنظومة التعليمية، وبين باقي قطاعاتالمجتمع. فإذا كانت تلك المنظومة بمثابة الشريان الذي من المفروض أن يغذيشبكة المجتمع، بدماء نقية توفر له الدفع والحيوية، وتجدد العطاء، فإن شبكةالمجتمع أو هياكله الإنتاجية ينبغي أن تكون مؤهلة لاستقبال ما تضخهالمنظومة التعليمية من دماء، وبنفس القدر فإن المنظومة التعليمية ينبغي أنتكون في مستوى حاجيات المجتمع ومتطلباته، من الأطر المدربة المؤمنةبرسالتها في عمارة الأرض، وترقية الحياة إلى أعلى مستوى ممكن عبر تقديم النموذج الصالح للانسان الصالج من حيث المبادئ و القيم الفاضلة التي تعكسها النمادج السلوكية و التي تعبر عن الهوية المغربية من حيث الأصالة والتعايش مع كل الثقافات مهما كان شكلها أو مصدرها في احترام وتسامج متبادل دون إقضاء وتهميش لا على القوالب الجاهزة المستوردة تكريسا لمفهوم الهيمنة العولمية.
ومنالمؤسف جدا أن هذا التنسيق الذي يشكل روح التخطيط، يكاد يكون منعدما فيمجتمعنا المغربي، وفي مقابل ذلك نجد تخطيطا من نوع غريب، بغض النظر عنأسبابه، والدوافع الكامنة وراءه في إغفال أو تجاهل تام لكل مقومات التكامل مع الكيانات الأخرى المكونة للمجتمع.
فإذا أخذنا – على سبيل المثال- الخريطةالمدرسية، وجدناها تمثل مظهرامن مظاهر ذلك التخطيط الغريب، غرابة يصحبها الظلم في جميع الأحوال، فلا يستطيع عاقل مهما كان له قدرة علىالتحمل، واختلاق التأويلات، أن يقتنع بما يجري من عبث على مستوى الخريطةالمدرسية، ولا يملك إلا أن يصنف ذلك في خانة اللامعقول بما تحمله من زيف وإكراه يبين بوضوح القهر أو الالزام الاجتماعي الذي تمارسه المؤسسات أم التنظيم الاجتماعي على الفاعلين و الأفراد بضفة عامة مما يبرو أن هذا التنظيم خارج عن شخصية الفرد بل مستقل عنها و بالتالي فإن جل التصورات التخطيطات و التنظيرات سواء تعلق الأمر بالخريطة المدرسية أو غيرها لا تخضع لإرادة الفاعلين وبالتالي الحكم عليها بالفشل قبل بداياتها وهذا ما يجعل إصلاح التعليم بالمغرب أمرا مستحيلا رغم المجهودات المبدولة.
فهذه الخريطةتملك سلطانا عجيبا يمنح الفاشلين الضعفاء من التلاميذ فرحة زائفة بالنجاح،ولكن ثمة ذلك الزيف الباهض جدا، تؤديه التنمية، وتؤديه المنظومة التعليمية: عرقلة، واضطرابا، وتفككا، ويؤديه التلاميذ المخدعون المستدرجون عندماتلفظهم المنظومة يوما ما لفظ النواة، وربما حتى المجتمع، إلا أن تتداركهمرحمة الله، فيتخذوا لهم سبيلا في زحمة الحياة، بعد إعادة هيكلة أو برمجةوبنفس القدر، تحت إسم إعادة الادماج عن طريق برامج ومناهج جديدة بعيدة عن المدرسة العمومية أو ما تسمى التربية غير النظامية أو محو الأمية و حتى هذه المبادرات لا تصلح الاعوجاج لأن برامجها تبقى بعيدة كل البعد عن خصزصيات هؤلاء الضحايا
فإن ذلك السلطان العجيب يخول للمنظومة التعليمية أن تفعل تماما ما تريد هي لا ما ترغب المدرسة في تكوينه من قبيلنجاح وانتقال أطفال أبرياء بشكل تعسفي إلى مستوى موالي كان من حقهم ممارسة فعل التعليم و التعلم بشكل تام قبل الانتقال إلى هذا المستوى.
ونفسالسلوك اللامعقول يجري عندما تقدم المنظومة التعليمية حشودا هائلة منالمتخرجين للمجتمع، معتقدة أن تدفع به إلى الأمام، ولكن المجتمع يدفع بهاإلى الهامش لتصير كما مهملا، وطاقات معطلة، فتصير عبثا ثقيلا، ورأسمالامهدورا، وفي ذلك ما فيه من إيقاف لعجلة التنمية، أو عرقلة لدورانها بسبب ما يتيتب على ذلك من فقر و بطالة و أمية و انحرافات بأشكال مختلفة.. .
إنعوامل شتى معقدة تكمن وراء هذه الوضعية الغريبة، بعضها مكنون في نفوس الناسبمختلف شرائحهم، بفعل البرمجة العقلية، والقولبة الثقافية، التي خضعوالها، وبعضها الآخر هو نتاج لإرغامات هي بدورها ثمرة لاختلالات في التوازناتعلى مستوى التحكم في دقة الصراع والتدافع الحضاريين…كما أن جل المشاكل الاجتماعية التي ترتبت عن عدم تحقيق أدوار المدرسة التنموية لا تؤثر على المدرسة نفسها فقط و إنما توثر على التنظيم الاجتماعي ككل أي المؤسسات الاجتماعية التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالمدرسة من جهة وفيما بينها من جهة أخرى لأنه حسب النظرية البنيوية الوظيفية لرائديها تالكوت بارسونز و روبرت ميرتون المجتمع هو عبارة عن أجزاء مترابطة و متكاملة فيما بينها عبر مجموعة من الوظائف و الأدوار فإذا حدث خلل في أحد الأجزاء يؤثر لا محالة على الأجزاء الأخرى مما يعرقل نمو و تطور المجتمعوهنا التأكيد على ضرورة الأخذ بعين الاعتبار خصوصيات الأجزاء الأخرى أثناء عمليات التخطيط الاستراتيجي من حيث التكامل و التقاطع و كذا الاختلاف غير أن ذلك لا يمنع من الانصهار وفق نفسالرؤية والأهداف التي يسعى الكل إلى تحقيقها.
وفي نهايةالمطاف، فنحن أمام معضلة تنموية أساسها تربوي، ومعضلة تربوية أساسها تنموي،وفي ضوء هذه العلاقة الجدلية نفهم اختلال العلاقة بين البحث العلمي فيساحات الجامعات، وبين مؤسسات المجتمع، ومنشآته التنموية.
إذا كانت المنظومة التعليمية في حاجة إلىالاتساق بين مكوناتها وأجزائها لتؤتي أكلها، وتكفي مستهدفيها شر الفصام،الذي تورثه إياهم منظومة تشكو من داء التفكك والاضطراب، فإن ذلك الاتساق،على أهميته، وخطورة شأنه لا يغني عن اتساق وتكامل، ينبغي حصوله بين تلكالمنظومة من جهة، وبين مؤسسة الأسرة ومؤسسة الإعلام……، فضلا عن مظاهر الحياةالعامة التي تنبعث تأثيراتها القوية النافذة لتمارس سلطاتها على نفسياتالأفراد، وتحدث فيها شعورا بالرضى يدعم عملية التنمية الوجدانية والعقلية،ويحقق التوازن المطلوب، الذي يشكل دعامة أساسية لبناء شبكة العلاقاتالاجتماعية القادرة على إنتاج وتبادل الخيرات، ضمن صورة تضامنية متماسكة سواء من داخل مكونات المنظومة التربوية التعليمية من جهة أو بين هذه المنظومة وكل شرائح المجتمع في توافق و تكاملبشكل يضمن نجاعة العمل المشترك و المتوازي لتحقيق نفس الأهداف.
أمافي حالة العكس، فإن تمزقات مريعة، وهزات عنيفة، تتعرض لها النفوس، فتنعكسعلى شبكة العلاقات الاجتماعية، فتحدث فيها ثقوبا، تفقد المجتمع وظائفه،وتخل بتوازنه، فتصاب دينامية التنمية في الصميم، فيقع التخلف، والتقهقر،والارتكاس. إن ما يمكن أن نطلق عليه لعبةالبناء والهدم، والتنافر والتصادم بين مكونات المنظومة التربوية يسقطالمجتمع في عبثية مقيتة، تعرقل السير نحو الأهداف والطموحات، التي تظل فيظل هذه الوضعية مجرد خيالات وأوهام.
باحث في علم الإجتماع والأنثروبلوجيا
Addkorasat1@gmail.com
===============================
المراجع
الميثاق الوطني للتربية و التكوين
الكتاب الأبيض