يُحْتَفَلُ سنويا باليوم العالمي للغة الأم ،في كل يوم 21فبرايير من كل سنة، هذه المناسبة التي أعلنتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة و العلوم (اليونسكو) في مؤتمرها العام في نوفمبر من عام 1999، و كان المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية من المؤسسات العلمية و الثقافية بالمغرب التي تولي أهمية كبيرة لهذا اليوم العالمي، من خلال تنظيم ندوات و محاضرات و أنشطة ثقافية و فنية في هذه المناسبة، من منطلق أن اللغة الأمازيغية لغة للأم ، مما يقتضي الاهتمام بها. و بهذه المناسبة سنتناول بالتحليل موضوع اللغة الأمازيغية في علاقتها بلغة الأم و بالكتابة.
في علاقة اللغة بالكتابة
بداية لا بد من إلقاء نظرة حول اللغة بصفة عامة، وعلاقتها بالكتابة و الشفهية، حتى نتمكن من فهم الشروط الموضوعية التي تساهم في نقل لغة ما من المستوى الشفهي الطبيعي(لغة الأم) إلى مستوى التدوين والكتابة. فإذا كانت اللغة في أبسط تعريف لها ،هي “مجموعة أصوات رمزية ضمن نظام متعارف عليه بعد اختباره من خلال الممارسة الطويلة الأمد ، من قبل جماعة بشرية في مكان وزمان محددين”(1) فهي مرتبطة بالإنسان وقديمة قدم الإنسان ، فان الكتابة هي “أداة رمزية ثانية للأصوات باعتبارها رموزا لغوية . فهي تعتبر بذلك حدثا طارئا ولاحقا في تاريخ الإنسان. و هي لذلك تعتبر أداة أكثر اصطناعية بالمقارنة إلى اللغة المنطوقة، التي هي لغة طبيعية في الوجه الأعم من وجودها” (2). و إذا كانت اللغة مستقلة نسبيا، وتعتمد في وجودها على وجود المجتمع المستعمل لها ، فان الكتابة ليست كذلك ، فهي مرتبطة دائما باللغة التي تعتبر أداة لتوثيقها. فاللغة عنصر ضروري في التواصل ، والكتابة تعتبر عنصرا رديفا و مساعدا ومتمما لوظيفة اللغة التواصلية، لذلك يمكن تصور مجتمعات بدون كتابة، في حين لا يمكن تصور مجتمع بدون وجود لغة منطوقة. و تتميز اللغة المنطوقة كذلك عن الكتابة في كون اللغة لها علاقة وطيدة بالأذن لكونها أصوات مسموعة، حيث تعتمد السمع والموسيقى، و كون الكتابة مرتبطة بالعين، حيث تعتمد على الصورة و الرسم، لكونها أشكالا مرئية و ملموسة. و قيام الكتابة بنقل اللغة إلى رسوم و رموز مرئية أو ملموسة، سمح للغة المنطوقة بالاستمرار في الزمان والانتشار في المكان، حيث تحفظها و تصونها من الاندثار، فبعدما لم يكن للغة المنطوقة، من وسائل لصيانتها و الحفاظ عليها، إلا الذاكرة الفردية و الجماعية، وما يعتريها من عوامل النسيان والسهو والحذف و الاندثار والضياع ، فان الكتابة قد حفظتها عبر الأزمنة(التاريخ) و على امتداد الأمكنة (الجغرافيا)(3).
لـــغة الأم:
اللغة في أصلها وطبيعتها شفوية، و في تطورها اجتماعيا تبدأ بوضعية “لغة الأم”(4) حيث تشكل الأسرة البنية الاجتماعية الأولى للتواصل اللغوي الشفهي، التي تلقن فيها اللغة بشكل طبيعي، إذ يرضعها الصغار من أمهاتهم . و عبر مسار تطور الأسرة و امتدادها الاجتماعي إلى بنيات أكبر حجما و أكثر عددا ، حيث العشائر والقبائل ، وفق الحاجة التي تفرضها الشروط الاقتصادية الأولية السائدة ، والقائمة قديما على وسائل إنتاج بدائية في إطار أنماط اقتصادية فلاحية، لا تتجاوز استغلال الطبيعة، من خلال الالتقاط والقنص والصيد، و ما يحتمه ذلك على الإنسان من الترحال الدائم و الانتقال المستمر، في مرحلة أولى، أو من خلال استغلال الأرض وتربية الماشية، وما تقتضيه من الاستقرار و الإعمار، أو الرعي والإنتجاع في الظروف المناخية والجغرافية القاسية والمتغيرة، في مرحلة ثانية. هذه الظروف لا يحتاج معها الإنسان إلى وسيلة جديدة للتواصل أكثر من اللغة الشفوية المباشرة. و في المرحلة الثالثة من تطور وسائل الإنتاج، وتزايد أعداد البشر، و شساعة مجال استقرارهم، و تعدد و نمو مراكز تجمعهم و تطور عمرانهم ، نشأت الحاجة إلى وسائل جديدة للتنقل و للتواصل تتجاوز الاتصال الشفهي المباشر، ثم ظهور حرف جديدة (الصناعة اليدوية – التجارة ومن ثمة تقسيم العمل، الذي يقتضي التنظيم و الإدارة، و ما تعنيه من مؤسسات على شكل ما يسمى ب “دولة المدينة”(5). هذه الشروط الموضوعية هي التي خلقت حاجة الإنسان إلى اختراع الكتابة. التي من خلالها يرتقي بلغة الأسرة (لغة الأم) و العشيرة و القبيلة، و المعاش اليومي، من اللغة الشفوية (الطبيعية) إلى اللغة المكتوبة(الاصطناعية) للدولة و مؤسساتها. لغة الدولة (المكتوبة) هذه، التي ستعرف تطورات كبيرة في استقلال نسبي عن لغة الأم و الأسرة و القبيلة (الشفوية).
وهنا وجب الإشارة إلى أن كل تطوير و نهوض بلغة الأم (لغة الأسرة)، و إدماجها في مؤسسات الدولة( تعليم –إدارة –إعلام مكتوب ..) سيخرجها من وضعية ” لغة الأم” وينزع عنها هذه الصفة. فلغة الأم أو الأسرة بطبيعتها شفوية، أي لا تقوم على الكتابة و القراءة، فلذلك يطلق على كل من يكتفي بالشفهية في التواصل صفة ” الأمي” أي لا يقرأ و لا يكتب . فالتواصل داخل الأسرة في البيت لا يكون إلا شفهيا، لكونه مباشرا، ليس في حاجة إلى التوسل بوسائط أخرى. و “الأمية” – نسبة إلى الأم- لا تعني أي شيئا أخر غير الشفهية. و دمج لغة الأم في مؤسسات الدولة هو في الواقع تفريع للغة جديدة عن لغة الأم بشكل تدريجي. هذا الفرع الذي سيعرف مع الزمن، من خلال تداوله واستعماله في تلك المؤسسات، تطورات و تغييرات تصل إلى استقلال تام عن اللغة الأصل(لغة الأم). فكلما تم إخراج أو تطوير أو الانتقال بلغة ما من وضعية ” لغة الأم” الشفهية ، أي من “أميتها” – نسبة إلى الأم – التي تقوم على التواصل الطبيعي المباشر، إلى لغة مكتوبة تعتمد أدوات و وسائط جديدة ودعامات اصطناعية في أداء وظيفتها التواصلية (- الكتابة – الحروف – الحجر – البردي – الورق – الآلة الكاتبة – الحاسوب..)، فإنها تفقد صفة “لغة الأم”.
الأمازيغية بين لغات الأم و اللغة الممعيرة
و بناء على ما سبق، فان جميع المجهودات العلمية و التربوية و الديداكتيكية التي يقوم بها المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية تصب في إخراج اللغات الأمازيغيات الثلاث (تشلحيت – تمازيغت – تريفيت) من وضعية “لغة الأم”، إن لم نقل القضاء عليها، لصالح بناء لغة جديدة في مختبرات المعهد في إطار ما يسمى بتهيئة اللغة. حيث يتم إعداد لغة أمازيغية ليست باللغة الأولى التي يتعلمها الطفل الأمازيغي من أمه في الأطلس الكبير و سوس ، وفي الأطلس المتوسط، وفي الريف، فهذه الأمازيغية الافتراضية(6)، لا علاقة لها بلغات البيوت و الأمهات الأمازيغيات، حيث لا تستطيع هذه الأمهات، اللواتي لا يتقن إلا إحدى الأمازيغيات الثلاثة ، متابعة النشرات الإخبارية والجوية و بعض البرامج التي تبثها القناة الثامنة الأمازيغية، كما أنها ليست اللغة التي يكتب بها الأمازيغ إبداعاتهم ( الفنية – الشعرية – القصصية، و المسرحية ..) ولا ينشدون بها أهازيج ” أمارك ” ولا يوقعون بها رقصات أحواش أو أحيدوس . فهذه اللغة الأمازيغية الممعيرة من طرف المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، ينعدم شرط التواصل الجماعي فيها، لا على المستوى القاعدي في المجتمع ، ولا على مستوى القمة (النخبة)، إذ لا يستطيع التواصل بها حتى الباحثين المختصين و المهتمين بها دراسة وتدريسا، فغالبا ما يلجئون إلى الكتابة والتواصل إما بالفرنسية أو العربية أو إحدى الأمازيغيات الثلاثة.
فبدل تركيز الجهود على تقعيد و تهيئة اللغات الأمازيغية الثلاث كل على حدا، و تعميمها في التعليم و الإعلام و الإدارة ، ومختلف المرافق العمومية، خاصة في إطار مشروع الجهوية الموسعة المنتظر تنزيله في المستقبل القريب، و عوض الاتجاه إلى تقعيد و تهيئة اللغات الثلاثة باعتبارها لغات الأم لتتحول الى لغات مقعَّدة و مهيَّئة ، انسجاما مع المواثيق الدولية، رغم ما فيه هو الآخر من تهديد للغات الأم تلك على المدى البعيد. و ذلك العمل بالطبع يحتاج إلى جهود علمية جبارة وموارد بشرية ومالية مهمة، والى عقود من الزمن،حيث سيحتاج الأمر إلى جيل أو جيلين(7) ،فان النخبة الأمازيغية المشتغلة بالمعهد لا تستطيع الانتظار حتى تنضج و تتهيأ هذه الشروط، و تترك أجيال المستقبل لتجني ثمار هذا العمل، لأنها تريد أن تستفيد من ذلك العمل لنفسها أولا ، مادامت هي المؤسسة لبدايته. و هذا ما ستكون له نتائج وخيمة مستقبلا.
—————————
الهوامش:
-1)- عبد الصمد بلكبير – في الأدب الشعبي : مهاد نظري-تاريخي- نشر اتصالات سبو مراكش –المطبعة والوراقة الوطنية –مراكش الطبعة الأولى 2010 – الصفحة98
-2) – نفس المرجع ونفس الصفحة.
– 3) – نفس المرجع – الصفحة 103
-4) – جيمس- و- طوليفصون – السياسة اللغوية : خلفيتها و مقاصدها – ترجمة: د. محمد الخطابي تقديم : د. عبد الغني أبو العزم – مؤسسة الغني – مطبعة المعارف الجديدة الرباط – الطبعة الأولى 2007 – ص25
Friedrich Engels – L’Origine de le famille de le propriété privée et 5)
de l’etat – traduction de Jeanne Stern , revue par Claude Mainfroy –éditions sociales paris 1983 page 91
6) – الأوراغي محمد : التعدد اللغوي : انعكاساته على النسيج الاجتماعي – منشورات كلية الآدب والعلوم الانسانية بالرباط جامعة محمد الخامس – سلسلة بحوث و دراسات رقم 36 – مطبعة النجاح الجديدة : الدار البيضاء – الطبعة الأولى سنة 2002 – ص : 85
7) – أقديم محمد – الوضع اللغوي بالمغرب و دسترة الأمازيغية.