لاشك أن الدول التي عرفت طفرة نوعية في المجال التربوي اعتمدت في استراتجياتها على التخطيط التربوي باعتباره آلية استشرافية ، تهدف إلى التحكم في مدخلات ومخرجات النظام التعليمي عن طريق استدماج تقنيات ومنهجيات إحصائية تجريبية، من أجل عقلنة وترشيد موارد الدولة المادية والمالية والبشرية والمؤسساتية، ومن خلال وضع فرضيات وخطط و وبلورة أهداف ومشاريع على المدى البعيد أو المتوسط أو القصير، انطلاقا من حاجيات النظام التربوي ومراعاة للخصوصيات المحلية واستحضارا للموارد والفرص المتاحة، واستنادا على السياسات التربوية العامة المعتمدة من طرف الدولة و المندرجة في إطار التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد.
ونتيجة لتسارع وتدفق المعلومات و كثرة وتنوع المستجدات في الميادين العلمية و الصناعية و التكنولوجية و المعلوماتية في عصرنا الحالي، وكذا تنوع وتشعب الوظائف و المسارات المهنية وتعقد الحياة العملية ، أضحى التوجيه التربوي ضرورة ملحة و مسألة مصيرية من خلال عملية الإعلام و المساعدة على التوجيه التي تجعل من أولوياتها التربية على الاختيار و بناء المشروع الشخصي للتلميذ من خلال مساعدة التلميذات والتلاميذ على مهارت البناء الإستراتيجي لمشاريعهم المستقبلية.
لكن وعلى الرغم من أهمية مجال التوجيه والتخطيط التربوي في السيرورة التنموية للمنظومة التربوية، باعتباره دعامة أساسية لتحسين جودة النظام التربوي، فإن واقع الممارسة الميدانية يؤشر على عدة اختلالات وتعثرات نتيجة عدم وضوح الرؤيا وضبابية في تحديد وتدقيق الأهداف الإستراتيجية المستقبلية.
وفي هذا الصدد، تعيش منظومة التوجيه والتخطيط التربوي بالمغرب هذه الأيام على وقع القرارات المتسرعة والمنفردة والغير المحسوبة العواقب ، من خلال ما راج مؤخرا من أخبار تتحدث عن إلغاء امتحان ولوج مركز التوجيه و التخطيط التربوي (COPE) المزمع تنظيمه حسب مقرر تنظيم السنة 2012-2013 ابتداء من 8 يوليوز 2013، و ما سيتبعه – ربما – من إغلاق المركز نهائيا. وهذا يذكرنا بقرار متسرع سابق للسلطات التربوية يتمثل في توقيف التكوين في مركز مفتشي التعليم زهاء عشر سنوات (من سنة 1999 إلى 2009) وما خلفه من تداعيات سلبية على منظومة التفتيش التربوي، تمثلت بالأساس في الخصاص المهول في أطر التفتيش ، وفي الإختلالات العميقة في توزيع و تغطية مناطق التفتيش الشاغرة في النيابات التعليمية، والتي لازالت المنظومة التربوية تعاني من تبعاتها لحد الآن.
وعليه، فإن صح خبر عزم الوزارة الوصية إغلاق مركز التوجيه و التخطيط التربوي، فإنه سيشكل ولا ريب قرارا ارتجاليا و خسارة كبرى للمنظومة التربوية، ومؤشرا على غياب التخطيط المحكم و التصور الواضح لوظائف ومهام أطر التوجيه والتخطيط التربوي، وانتقاصا و تبخيسا لدورها المحوري في ضمان جودة مدخلات ومخرجات النظام التعليمي.
ومما يزكي هذه الأخبار، صدور المقرر الوزاري المنظم للدراسة خلال موسم 2013.2014 الذي أغفل ذكر مركز التوجيه و التخطيط التربوي . بالإضافة إلى القرار الجديد لوزير التربية الوطنية رقم 1328.13 (13 مارس 2013) المتعلق بتحديد شروط وإجراءات وبرامج مباريات المهنية لولوج بعض الدرجات. وفي ضل هذه المستجدات يحق لنا كمعنيين ومهتمين بالشأن التربوي أن نتساءل:
– كيف يمكننا توقع ورسم مستقبل ومآل منظومة التوجيه والتخطيط التربوي بالمغرب في سياق التوجهات الجديدة لوزارة التربية الوطنية و التي ما فتئت تؤكد من جهة، على نهج حكامة جيدة في تدبير المنظومة التربوية ترتكز بالأساس على علم التخطيط والبرمجة الدقيقة، ووضع أهداف واضحة وجدولة الإنجازات، وكذا تعميق ثقافة التوجيه من خلال تطوير الملكات و الكفايات لدى المتعلمين و استثمار قدراتهم وميولاتهم و طاقاتهم الإبداعية باعتبارها حجر الزاوية في بلورة المشروع الشخصي للتلميذات والتلاميذ . و من جهة أخرى نجد السلطات التربوية مازالت لم تنزل بعد هذه التوجهات التنزيل السليم، بحيث أن الواقع الميداني لممارسة التوجيه والتخطيط التربوي يشهد على ذلك؟
– ما هو مصير مركز التوجيه التخطيط التربوي (COPE) في ضل محاولة البعض طمس معالمه والتبخيس من مكانته العلمية و جهوده وقيمته المضافة من خلال سعيهم لإغلاقه؟
– وهل قامت السلطات التربوية باستشارة وإشراك المعنيين المباشرين (مفتشين ومستشارين في التوجيه والتخطيط التربوي، أساتذة و متدربي مركز التوجيه و التخطيط التربوي… ) في صناعة هذه القرارات التي تمس في العمق مستقبل منظومة التوجيه والتخطيط التربوي باعتبارها من المرتكزات الأساسية لإنجاح الإصلاح التربوي المنشود ؟
إن تقدم الأمم يقاس بعدد مراكزها العلمية وبمستواها المعرفي والبحثي و مكانتها وسمعتها الدولية. و مركز التوجيه التخطيط التربوي (COPE) هو من بين المراكز القليلة بالمغرب التي نالت اعترافا دوليا بمستواها العلمي وقيمة أبحاثها التربوية من لدن العديد من المنظمات الدولية المعنية بالتربية والثقافة، وعلى رأسها منظمة اليونسكو (UNESCO) والمعهد الدولي للتخطيط التربوي(IIPE)، الشيء الذي جعله يصنف كمعلمة تربوية فريد ة من نوعها في إفريقيا والشرق الأوسط . وذلك نتيجة لنصف قرن من التجربة والخبرة في تكوين وتدريب أساتذة التعليم الثانوي للاضطلاع بمهام الاستشارة والتفتيش في مجال التوجيه والتخطيط التربوي، ومساهمته القيمة في تأهيل أطر نوعية ساهمت بشكل كبير في تأهيل الرأسمال البشري الوطني والارتقاء بجودة المنظومة التربوية مند بداية الاستقلال. .
فقد أنشأ مركز التوجيه التخطيط التربوي مند ستينات القرن الماضي (سنة 1961) كمؤسسة تربوية متخصصة في تكوين واستكمال تكوين أطر وزارة التربية الوطنية في مجال التوجيه والتخطيط التربوي عبر سلكي الاستشارة والتفتيش.
كما يعتبر التكوين بالمركز من أجود وأرقى التكوينات الأكاديمية التي تقدم لأطر وزارة التربية الوطنية على اعتبار محتويات التكوين من جهة، والتي تضم ضمن موادها التكوينية (تقنيات التخطيط والتوجيه التربوي،الإحصاء، الديموغرافيا،علوم التربية ،التنمية واقتصاد الشغل، علم النفس التربوي… ) بالإضافة إلى البحوث الميدانية القيمة المعدة من طرف المتدربين تحث إشراف أساتذة المركز الأكفاء من جهة أخرى. ناهيك عن تفرد المركز بتوفره على خزانة غنية بالوثائق والمراجع والروائز المتخصصة التي لا يمكن إيجادها في المراكز التكوينية الأخرى.
كما يعتبر خريجو المركز من خيرة أطر وزارة التربية الوطنية من خلال قيامهم بأدوار محورية و طلائعية سواء في مجال التخطيط والتوجيه التربوي أو على مستوى تدبير المنظومة التربوية، الأمر الذي مكن مجموعة منهم من تقلد مناصب المسؤولية على جميع مستويات اتخاذ القرار التربوي ( مركزيا، جهويا، إقليميا ومحليا).
ونظرا لمكانة مركز التوجيه التخطيط التربوي العلمية والمهنية ومستواه الدولي، اختارت مجموعة من الدول الإفريقية الاستعانة بخدماته وخبراته لتكوين أطرها الوطنية في مجال التوجيه والتخطيط التربوي . كان أخرها توقيع وزير التربية الوطنية ونظيره البوركينابي في فبراير 2013 بالرباط، على بروتوكول اتفاق لتكوين الأطر العليا البوركينابية في مجال التوجيه والتخطيط التربوي ، و وضع مخطط خماسي للتعاون 2018-2013، يتوخى تكوين 24 من الأطر البوركينابية في التوجيه المدرسي والمهني والتخطيط التربوي بعد استفادة 12 طالبا بوركينابيا من التكوين بمركز التوجيه والتخطيط التربوي برسم السنوات الدراسية من 2007 إلى 2011.
وعلى الرغم من كل هذا الرصيد الغني ، تحاول جهات إغلاق مؤسسة تربوية بهذه الأهمية الأكاديمية و هذا الصيت الدولي، فعوض أن يتم التفكير في تعزيز أدوارها ووظائفها والعمل على تحسين الانسجام والتوافق بين الأهداف الإستراتيجية للتكوين وبين متطلبات الممارسة الميدانية لمجال التوجيه والتخطيط التربوي، من أجل الارتقاء بالمركز إلى مصاف المؤسسات الأكاديمية التي تعنى بالتكوين والتأطير وإنجاز الأبحاث والدراسات وبلورة التصورات و الاقتراحات حول الإشكاليات الكبرى للمنظومة التربوية ، يلجأ البعض إلى الدفع نحو الخيارات الغير المحسوبة والتي سيكون لها – إن طبقت – عواقب وخيمة على المنظومة التربوية .
وإجمالا، فإن الارتقاء بمجال التوجيه والتخطيط التربوي لن يتحقق إلا بالإشراك الحقيقي للمعنيين المباشرين في هندسة مستقبل منظومة التوجيه والتخطيط التربوي، كما أن الحسم في قرار إغلاق المركز يستوجب من السلطات التربوية التريث والتأني وفتح استشارة موسعة مع كافة الفاعلين والمتدخلين من أجل بلورة وصناعة القرار السليم الذي من شأنه خدمة المنظومة التربوية و إنجاح الإصلاح التربوي المنشود.