سعيد الشقروني
تنوير: رجع الذاكرة
لا تزال مخيلتنا الطفولية تحتفظ بالعديد من الحكم والأقوال المأثورة التي نحفظها عن معلمينا، ومازلنا نتذكر حثهم لنا على طلب العلم باعتباره فريضة على كل مسلم ومسلمة، ونتذكر معهم أيضا تنبيهنا إلى أن أول ما نزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو:”اقْرَأْ ” [العلق: 1 و3]، وأن الله عز وجل أقسم بالقلم ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ﴾ [القلم: 1].
بصيغة أخرى لا أحتاج فيما أعتقد إلى أن أقف كثيرا عند القيمة التي أولاها ديننا الحنيف للعلم والمعرفة وربطهما بالتعبد وعمارة الأرض، وان التخلي عنهما – وهذا هو ما حصل بالفعل- هو ما جعل هذه الأمة تتخلى عن صدارتها وريادتها.
وبالقدر الذي لا يختلف فيه اثنان حول قيمة العلم في حياة الأمة، لا يختلفان أيضا حول وضع القراءة في مجتمعنا الذي أصبح فيه الفرد يفضل مشاهدة الأخبار عوض قراءة الصحف..
أولا- الأسرة: هل من وعي شقي؟
إن أهم ما يمكن أن يسهم في تكوين شخصية الطفل حسب آخر الدراسات العلمية، هو أن ننجز عملية القراءة أمامه، بهدف أن نساعده على توسيع قاعدة مفرداته وتطوير قدراته القرائية في أفق أن يمكنه ذلك الأمر من تعلم التواصل ومن تطوير تعلماته القرائية مستقبلا.
ولعله من الأسئلة المقلقة التي تشغل بال كل زوج شديد العناية بمستقبل أبنائهما المعرفي هي: كيف نجعل من الكتاب جزء من اليومي للطفل؟ وهل نعتمد الألوان أم الأشكال أم الكلمات لتطوير ملكة اللغة عنده؟ ما الحكايات التي يجب أن تحكى له قبل نومه كي يسافر في لا وعيه محملا بمئات الصور وينسج شكلا ما لبطله المفترض؟
إن أسئلة- وعيا من هذا النوع لا يمكن أن يصدر إلا عن آباء يعون وظيفتهم الحقيقية التي تتعدى ما يزعمه بعض الذين يختصرون -بوعي أو بغير وعي- واجبهم في الأكل والشرب واللباس والمدارس، دون أن يؤمنوا بأن مرافقة الأبناء قرائيا وجعلهم يتورطون في محبة القراءة والكتاب وألفتهما أحد المداخل الرئيسة لتحسين مردوديتهم داخل الفصول..
يحضرني هنا رأي لأحد الباحثين في علم النفس إجيد روير Egide Royer الذي يرى أن تعلم القراءة يلعب دورا هاما في المسار الدراسي للتلميذ بدء من المستويات الأولى من تعلمه، ربما هذا ما يبرر ضرورة دعوة الوالدين إلى تعزيز رغبات وميولات أبنائهم القرائية في سن مبكرة.
ثانيا- الفرنسيون والقراءة: الكتاب قبل الحلوى
“الفرنسيون لا يقرؤون” كانت هذه أول عبارة استهل بها الناقد الفرنسي تزفتان تودروف في أواسط السبعينيات كتابه “نقد النقد، رواية تعلم”. قد يُصاب القارئ المُتسرع غير المُتدبر لسياق الكلام، بنوع من الدهشة والحيرة وهو يصادف مثل هذا القول الذي قد يخلخل لديه كل ما تراكم لديه من قناعات وتمَثُّلات ترى في الغرب نموذجا للقراءة وللترغيب فيها وتأصيلها..
غير أن سياق القول يَجْعَلُنا ندرك أن المقصود بالكلام هو كون الفرنسيين لا يهوون قراءة الكتب النقدية.. هكذا يُرْفَعُ اللُّبس وتَتَضِّح الرؤية، ويبطُل العجب، حينما ندرك أن من يفضلون قراءة الروايات والإبداع في فرنسا كبير جدا، رغم أن وضْعَ القراءة لم يُرض تُودُروفَنَا..
أستحضر هذا الكلام، ونحن نجد حديث المؤسسات التعليمية والآباء والمثقفين لا يخلو من شُجون عن ظاهرة الإعراض عن القراءة لدى التلاميذ بشكل يهَدد ثقافتهم ومستقبلهم العلمي.
يزداد هذا القلق، عندما نشاهد في كبريات المحلات التجارية الغربية أطفالا في عمر الزهور، يفترشون الأرض أمام رفوف الكتب المصورة والملونة، يُقلِّبُون الصفحة تلو الأخرى، ويبحثون عن مَخَايِل مُحْتَملة لصُور قد تؤْنِسهم أو تسْتَثِير مكَامِن الغرابة لديهم. فما الفرق بين أطفالنا وأطفالهم؟
تعجب أطفالنا – بشكل عام- رُفوف الحلوى والمشروبات الغازية والدِّبَبَةُ القُطبية.. التي قد تفوقهم حجما وتفوق مصْروف رب أسرة لأسبوع بكامله..وتعجب أطفالهم القصص المصورة وقصاصات الصور اللاصقة لأشهر الرسوم المتحركة وغيرها..
ثالثا، الأستاذ والقراءة:
المثير في المسألة، هو أن الإعراض عن القراءة لم يعد مقتصرا على القاصرين والقاصرات من تلاميذنا وتلميذاتنا، ولا الراشيدين والراشدات من طلابنا وطالباتنا، بل تعدى ذلك إلى من يأمرون بالقراءة وينهون عن الخمول والكسل: فأغلب أطرنا التربوية -إن لم نقل معظمها- لم تعد تتذكر من تخصصها إلا ما عَلِقَ بأهداب ذاكرتها خلال سنوات عِجافٍ قضتْهَا بالجامعة. قد يطول عُمْر هذه الذاكرة: قد يعود إلى بداية الثمانينيات أو أواسطها.. تغيرت نصوص المقرر بضْع مرات ولم تتغير الذاكرة.. شاب الرأس وشابت معه شهية القراءة..
لقد أصبحت جُذاذات بعض أطر التربية صفراء رثة من كثرة الاستعمال والإعارة، يَتْرُكُها السلف للخلف، حتى بات التلميذ يسَتْسَرْعِ أستاذه الخُطَى وهو يُمْلِي درسه، وقد يسبقه بالكلمة أو اللفظة التي ينقلها من دفتر جاهز لديه، أعاد معه السنة الدراسية أو وَرِثَهُ عن تلميذ محظوظ انتقل إلى المرحلة الموالية.
فهل نقرأ حقا حتى نُطالب الآخرين بالقراءة؟ لا غرابة عندما يعْتَرِفُ بعضنا بأنه لا يملك في بيته مكتبة باستثناء كتب المقرر.
كيف نُجدّد مداركنا ومعارفنا، ونحن لا زلنا نرتهن إلى ذاكرة “موشومة” بمطالب الحياة المادية والسلالم والحركات؟؟
بعض أطر الإشراف التربوي بالتعليم الابتدائي لها القدرة على أن تسأل المعلمين بالجبال والمسالك الوعرة والوِهَاد، عن آخر ما قرأوه من أعمال أدبية أو فنية أو أخرى.. قد يجد بعضهم حرجا في الإجابة عن سؤال من هذا القبيل؛ في الوقت الذي يجد فيه آخرون تعالما ما يجب أن يُقْتَرَفَ في حق من “كاد أن يكون رسولا”..
فربما يجيب أحدنا من باب البسط: قرأت البارحة مذكرة الحركة الانتقالية، فيرد عليه زميله لازال منشغلا بإتمام ما تبقى من كلمات مُسْهمة: ألم تلتحق بزوجتك بعد؟..
ويعلِّق آخر أدْرَكه الصباح مع قنديل زيت: قرأت دور الكهرباء في التنمية القروية..
أمَّا من أذن لهم في آذانهم يوم وِلادتٍهم أن وَاسِطَة ستِنَقِّلُهُم إلى وسط المدينة، فيبقون في المقاهي القروية يعَلِّقون على كلام وزير، ويسبون النَّقابات والأحزاب.. وقد ينتقدون تردِّي مستوى التعليم..
صفوة الكلام:
لي اليقين بأن توصيف هذه الظاهرة يفوق قدرة هذه الورقة، وبأن وضع الأقواس (..) ربما سيثير لدى قارئ مُتَتَبِّعٍ عصِّي الدَّمع، افتراضات ومُبررات وحيثيات لهذه الظاهرة، قد تُتَاخِمُ أنساقا معرفية وثقافية تحتاج إلى بحر من المداد، وإلى شرائط صوتية طويلة من الكلام.. كلام قد لا يكون بعده فعل.
ما أردنا أن أقوله باختصار فيما تقدم هو إن مقاربة وضع القراءة في بلادنا أمر معقد بمعنى من المعاني، يتداخل فيه الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والتكنولوجي، له جذور عميقة ذات ارتباط بعوامل التنشئة والتربية، ومنها ماله بحجم الضغوطات والإكراهات التي تعترض سبيل المدرسين.
أتساءل مرة أخرى: كيف نقنع تلاميذنا بالقراءة ونحن لا نقرأ إلا الشيء القليل أو لا نقرأ؟ هل ستقبل “مواعظنا” ونحن نأمر بالعلم وننهى عن الجهل؟
سأستعير هنا قولا لمالك عن ربيعة نقلها عن سعيد بن جبير :”لو كان المرء لا يأمر بالمعروف و لا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء، ما أمر أحد بمعروف و لا نهى عن منكر” . قال مالك : وصدق. ومن ذا الذي ليس فيه شيء” :من ذا الذي ما ساء قط، ومن له الحسنى فقط”
ربما هذا ما يبرر تقديمنا للمواعظ دون أن تعيها قلوبنا، وأن نأمر بالقراءة دون أن نقرأ كثيرا !
الجمعة 30 نونبر 2012 – 13:28