أسس اختيار مقاربة بيداغوجية

التادلي الزاوي16 سبتمبر 2013
أسس اختيار مقاربة بيداغوجية

د. التادلي الزاوي

تقديم

في سياق فهم جيد للعوامل الكامنة وراء فشل ، أو صعوبة تطبيق مختلف النماذج البيداغوجية التي جربها المغرب ، يسعى هذا العرض إلى إبراز طبيعة البيداغوجيا والمقاربة البيداغوجية ، وأهميتها في رسم طريق الاختيارات التربوية ، والكشف عن الأسباب التي تقف وراء اختيار هذا النموذج أو ذاك ، والأسس التي ينبني عليها الاختيار . فالمدرسون في جزء هام منهم رغم مركزيتهم في نجاح أي اختيار بيداغوجي يسارعون إلى التنفيذ بعيدا عن أي سؤال عن الخلفيات والأهداف الكامنة وراء تبني هذا النموذج أو ذاك ، مما يجعل تنفيذهم مشوبا بالعديد من النواقص ، بل منهم من يجد نفسه مجبرا على نهج لا يقتنع به ، لتكون النتيجة سلبية .

إن البيداغوجيا والممارسة المرتبطة بها لا يمكن نجاحها في غياب معرفة بها وبأسس اختيارها، وحيث لا يدعي هذا العرض الجواب القاطع عنها ، فإنه إن كان له من شرف فهو يرمي إلى التساؤل حول مرتكزات المغرب كغيره في اختيار نموذجه البيداغوجي ، من خلال الاطلاع على أهم الأسس التي دأبت الأنظمة التربوية في العديد من البلدان المتقدمة مراعاتها .ولأن بعضها قد يحضر في اختيارنا المغربي فإنه يجعلنا نتساءل عن مواطن الخلل ، وينبهنا من ثم إلى ضرورة مراجعة الذات والنظام التربوي على حد سواء ، طالما أن هناك نيات صادقة من أجل تجاوز وضعية التخلف ، لكنها تحتاج لمن ينبهها لزلاتها ، ولعل التنبيه الأول يكمن في ضرورة الفهم ، وهذا ما يطمح إليه العرض .

توضيحات أساسية

يلتبس الأمر كثيرا على ممارسي مهمة التدريس فيعتبرون لفظ مقاربة يطابق بيداغوجيا ، لتصبح كل مقاربة بيداغوجيا ، ويرى بعضهم أن المقاربة هي تصور مخالف للبيداغوجيافيحيله إلى مجال نظري أو منهجي مختلف عن مجال البيداغوجيا محملا إياه ما لا ينسجم مع المدلول . وفي زحمة هذا الجدال المفهومي والاصطلاحي لا يسعنا إلا أن نحاول تبسيط المسألة بالنظر إلى الدلالة اللغوية المعجمية والمعنى الذي يتداول به المفهوم ، معتبرين كل تعسف في تحميل المصطلح ما لا تقبله دلالته ، يفضي بالضرورة إلى المزيد من الغموض ، ويساهم في التوظيف غير السليم للمصطلح ، بل ويفضي إلى نتائج غير منتظرة ومسيئة للمراد .

مفهوم المقاربة : المقاربة في اللغة تعني الدنو والاقتراب وملامسة حقيقة الشيء ، حيث يقال قارب الشيء إذا دناه ، كما يقال قرب منه أو دنا منه بصدق . والمقاربة مصدر لفعل قارب يقارب ، ومنه أفعال المقاربة المعروفة (كاد ، كرب ، أوشك ) والاقتراب من الشيء يعني قرب الوصول إليه ومشارفته . وهي تعني الطريقة أو النهج المعتمد في الوصول إلى الشيء وإدراك حقيقته ،لأنها مرادف لكلمة demarcheالفرنسية مثل ما ورد في كثير من المعاجم ،أو المسار المعتمد في البحث ، أو طريقة معالجة مسألة ما ( manière d’aborder une question) .

وحيث إن البيداغوجية هي وصف للمقاربة في الاستعمال التربوي ، إذ ينبغي أن تتحلى بكل ما تعنيه كلمة بيداغوجيا ، فينبغي أن تشتمل وفق تعريف ” روني أوبير” للبيداغوجيا على كل ما له صلة بالعلوم والفلسفة والفن والتقنية كإطار منظم وفق تمفصلات منطقية ، أو بتعبير “هاريون” عن البيداغوجيا ينبغي أن تهتم المقاربة البيداغوجية بالحقائق حول المناهج وطرق التدريس والتقنيات والظواهر التربوية .

إن المقاربة البيداغوجية في الاصطلاح التربوي تعني ذلك التصور النظري القائم على مبادئ وأسس يرجع إليها الباحث في تفسير موضوع دراسته ، أو المواقف المتبناة بصدد البحث والدراسة .

إنها النهج المعتمد في تناول شؤون وقضايا التربية بالاستناد إلى مفاهيم وأدوات معينة.وهي أيضا الأساس النظري المعتمد في تناول مواضيع التربيةوتفسيرها . ولذلك تستوجب المقاربة ما يلي:

– تبني نهج علمي موثوق ؛

– القابلية للتجريب ؛

– اتساع مفهومها لتقبل نظريات تكميلية ؛

– الاستناد إلى أسس مرجعية مشهود لها .

إن المقاربة البيداغوجية وفق هذا المعنى لتشكل سندا نظريا يحتكم إليه في المجال التربوي ، وهي معنية بتحديد الأهداف والوسائل والمحتوى والمجال الزمني للتنفيذ ، مثلما هي معنية بتحديد المسار المراد اعتماده والمؤهلات المطلوبة ، أو تحديد المدخلات والمخرجات ( التقويم )، معنية بتحديد نظام التكوين وبرامج التكوين وشكله ، وهي في النهاية معنية ببيان خارطة الطريق التي يهتدي بها كل نظام تعليمي، دون نسيان تحديد المهام والمسئوليات .

ما هي الاسس المعتمدة في اختيار نموذج بيداغوجي معين ؟

كل اختيار بيداغوجي لا يمكن إلا أن تكون وراءه دوافع وغايات وأن يكون محكوما بشروط معينة على صعيد التنفيذ مهما بدا تخفيه أو كتمانه لخلفياته . وتتباين قوة العوامل الموضوعية أو الذاتية في الدفع به واعتماده ، مثلما تتباين تأثيراتها على مساره ، نجاحه أو فشله . وبغض النظر عن سلامة أو عدم سلامة التحليلات المعتمدة في تفسير الاختيارات البيداغوجية التي عرفها المغرب والمتراوحة بين التأكيد على العوامل الذاتية أو العوامل الموضوعية ، نستطيع أن نسوق مجموعة من الأسسوالشروط التي تستند إليها كثير من الدول في اختياراتها البيداغوجية ، فأما الأسس فأهمها ما يلي :

* أسس وطنية وقومية وإنسانية ، حيث ينبغي أن يعكس الاختيار البيداغوجي خصوصية المجتمع الذي يتبناه ، ويبرز هويته ( احترام رموزه الثقافيه ، قيمه ، عادات أبنائه وتقاليدهم ، أعرافهم أساليبهم الحياتية ) ، ويعبر عن طموحات أبنائه وانتظاراتهم، ويستجيب لحاجات المجتمع وضروراته ؛

* أسس فلسفية واجتماعية ونفسية ، حيث ينبغي أن تكون المقاربة المتبناة قادرة على الاستجابة لطموحات المجتمع وتطلعاته وآماله وأحلامه التي تتجسد في أجياله القادمة ، مثلما ينبغي أن تكون إفرازا لواقع يعيشه المجتمع ،بما يعتمل فيه من أحداث ، أو ما يعيشه من تناقضات . فالمجتمعات لا تلتجئ إلى التغيير إلا حينما تستشعر اهتزازا في كيانها ، أو جمودا وتخلفا ، فتسارع لتحقيق التوازن المطلوب ، بل إن المجتمعات تتسابق في إنتاج وتبني المقاربات التي من شأنها مساعدتها على تحقيق التقدم المنشود في كل مرافق حياتها، والذي تكسب به رهان المستقبل ؛

* انبناؤه على أسس علمية ،حيث تسعى المجتمعات في نشدانها التقدم إلى الإعلاء من شأن العقل وتنمية الفكر النقدي ،من خلال الاستفادة من نتائج العلوم وجديدها ، وتوظيف ذلك في ما يفيد المدرسة في النهوض بأدوارها كاملة ، وتدارك كل نقص في مهامها ، دون إهمال لتنمية الوعي بقضايا المجتمع وحاجاته وشروط تقدمه . ولذلك تحث متعلميها على التفكير الإبداعي وابتكار الحلول لمختلف المشاكل التي تواجه مسيرة المجتمع ورقيه ؛

* انبناؤه على أسس ثقافية ، ويعكسها المجتمع في خطاه الحثيثة من أجل الحفاظ على التراث الوطني والإنساني وصيانته وإغنائه بالإبداعات التي يراكمها أبناؤه ، وفي نفس الوقت في بذل الجهد لتحقيق انفتاح إيجابي على تراث الأمم الأخرى ، قوامه التفاعل والاستفادة المتبادلة ، في إطار المثاقفة التي لا تقصي الخصوصيات ، أو تسعى إلى تحقيق التبعية والذوبان في ثقافة الآخر؛

* أسس حضارية ، حيث الأنظمة التربوية لا تعيش عزلة ، ولذلك فكل أمة في اختيار نموذجها التربوي مطالبة باستيعاب التطور الإنساني وفهم العناصر المتحكمة فيه ، وما تفرضه شروط المنافسة ، وإلا كان مصيرها الفشل والاندحار؛

* انبناؤه على أسس تكنولوجية ، وفقا لمتطلبات المرحلة وما تقتضيه من تجاوز للأشكال التقليدية القائمة على التلقين في بناء التعلمات، وتوظيف للتكنولوجيا باختلاف وسائلها ، من حاسوب ، وأنترنيت ، وغيرهما من أدوات الاتصال التي تيسر البحث عن المعرفة، وتسهل الوصول إليها وحسن استثمارها.

وأما أهم الشروط التي ينغي مراعاتها في المقاربة البيداغوجية فتتمثل في ما يلي :

* واقعية الاختيار في منطلقاته وشروط اعتماده حتى لا يكون مجرد طموح بعيد المنال ؛

* الانطلاق في إقرار أي نموذج بيداغوجي من دراسة متأنية لواقع الحال قبل الإقدام على الاختيار؛

* التقييم الدقيق للتجربة السابقة قبل العدول عنها؛

* التجريب القبلي والواعي للنموذج المراد تبنيه ؛

* مراجعة المناهج والبرامج والكتب المصاحبة قبل التخلي عنها أو تعديلها ؛

* السعي إلى جعل المقاربة قناعة لدى الممارسين ، وأداة يعتمدها الجميع في الممارسة التعليمية ، بما يقتضيه ذلك من شروحات وبيانات وإقناع وكشف عن المزايا والغايات ، فالمعرفة ضرورية وآلية لازمة للتنفيذ والإجراء؛

* التكوين المستمر المرتكز على التوجهات المطلوبة ضرورة ملحة لا يمكن التغاضي عنها مهما كانت الظروف غير متاحة ؛

فأية أسس اعتمدت في تبني المقاربات البيداغوجية في المغرب ( نموذج الكفايات) ؟

على الرغم من النقد اللاذع الذي يوجه إلى الاختيار البيداغوجي المغربي ، من حيث كونه تحكمت فيه اعتبارات موضوعية أساسا ( الوضع الاقتصادي والسياسي والشروط الدولية والوطنية ) سواء في بيداغوجيا الأهداف أو بيداغوجيا الكفايات ، فإننا ندرك جليا مفارقة قائمة بين النظرية والتطبيق بالنسبة للمقاربة بالكفايات أساسا نستخلصها مما عبر عنه مباشرة أو بشكل غير مباشر في دواعي اعتماد المقاربة أو سياق هذا التبني ، خصوصا في مقدمات الكتب المرجعية أو في خطب وبلاغات المسئولين ، وفي التوسع الذي استهدف إشراك مختلف الهيئات التربوية والعلمية والتكنولوجية والفنية والاقتصادية إلى جانب المجتمع المدني والشركاء التقليديين . ومن هذه الأسس ما يلي :

ّّّ* الارتقاء بالمتعلم إلى ما ينشده الميثاق الوطني للتربية والتكوين ( جعله في صلب التعلم من خلال اعتماد وضعيات تعلمية في الممارسة التعليمية )؛

* اعتباره الفاعل الأساس في بناء تعلماته ومنحه فرص اكتسابها( معارف مهارات مواقف واتجاهات ) للتأهل للاندماج في الحياة العملية ؛

* منحه فرصة مواصلة التعلم كلما استوفى الشروط والكفايات المطلوبة ؛

* استيعاب المعارف الأساسية والكفايات التي تنمي استقلاليته ؛

* التمكن من المفاهيم ومناهج التفكير والتعبير والتواصل والتكيف والفعل ، بما يجعله قادرا على التطور والاستمرارية في التعلم طيلة حياته ، بتلاؤم مع المحيط الوطني والعالمي ؛

* توفير فضاء تعلمي جيد ومناسب ؛

* توفير الشروط المادية والتربوية للتعلم الذاتي ؛

* إنجاح المتعلم في الحياة ؛

خلاصة :

هذه الأسس جميعها تبين أن المقاربة البيداغوجية المراد اعتمادها (الكفايات ) لا يمكن فهمها إلا في إطار شمولي ، فهي جاءت في إطار تغير في المواقف والقيم الكونية والمعتقدات تجاه الإنسان ، حيث ستسود مفاهيم بديلة لما كان يطرد . أصبح الحديث عن حوار الحضارات بدل صدامها ، الإنسان هو مصدر المعرفة ، حدث تغير في العلاقات الإنسانية، عولمة حقوق الإنسان ، النظر للمدرسة كمقاولة لها دور هام في النظام الاقتصادي والاجتماعي ، أصبحت المدرسة مطالبة بمسايرة التحولات التي يعرفها النظام العالمي الجديد. مطالبة بالاستفادة من نتائج العلوم التربوية والمعرفية من أجل التجديد الذي يقتضيهالعصر .

أما الشركاء الذين يمكن اعتبارهم عوامل إنجاح للمشروع ( المقاربة ) فقد حملهم الميثاق الوطني ، في إطار المقاربة التشاركية ، مسئولية النهوض بالتعليم ، وهم كالتالي :

– المربون والمجتمع ؛

– الجماعات المحلية ؛

– مؤسسات الإنتاج والخدمات ؛

– الجمعيات ذات الاختصاص ؛

– الآباء والأولياء ؛

– الأسرة ؛

– جمعيات الآباء والأولياء ؛

– المشرفون على تدبير المؤسسات التربوية والإدارات؛

– المشرفون التربويون ؛

– التلاميذ ؛

– الشركاء في الدولة ؛

– المنظمات غير الحكومية ؛

– القطاع الخاص …

لكن ماذا كانت النتيجة ؟

تقدم على الصعيد النظري وضعف بين على صعيد التطبيق ، نستطيع تبينه من خلال مراجعة المنطلقات وواقع الحال والبحث عن طبيعة الاختلالات ، من خلال نقد الممارسة البيداغوجية والكشف عن أخطائها ، من خلال الكتاب المدرسي ومدى مواكبته للمطلوب ، من خلال علاقة المدرسة بمحيطها ، من خلال مدى استحضار الإشكالات اليومية التي تعيشها المدرسة بكل مكوناتها ( الاجتماعية ، النفسية ، الاقتصادية ، البيداغوجية..)، من خلال مدى انسجام واقع الحال مع الطموح والأمثلة كثيرة يدركها بسهولة كل متأمل في الممارسة اليومية للمدرس والمدرسة..
من يتحمل هذا الخلل ؟ وكيف السبيل إلى معالجته وتفاديه ؟ وكم يلزمنا من الانتظار للخروج من هذا الوضع / النفق ؟ وبأية آليات أو وسائل ؟
أسئلة كثيرة ليس صعبا الإجابة عنها ، خصوصا إذا علمنا أن مختلف تدابير الإصلاح وإجراءاته تتم في المغرب عادة بنفس الأدوات الشاهدة على الفشل ، بل يتصدى البعض وبكل حربائية لاحتلال موقع جديد يجعله في صف الإصلاح بعد أن كان في صف الفساد ونظل بذلك ندور في دائرة مغلقة .