أربع خطوات لمواجهة “التسريبات”

أربع خطوات لمواجهة “التسريبات”

مرت امتحانات البكالوريا هذه السنة على إيقاع ضجيج صفحات “التسريبات” على الفايسبوك، التي شكلت شبحا حقيقيا لوزارة التربية الوطنية بكل أطرها ومكوناتها. فلا تلبث المواضيع توزع على المترشحين في الأقسام، حتى نتتشر على الفايسبوك انتشارا واسعا، ثم يجتهد “المسربون” في الإجابة عنها وتعميمها خلال الساعة الأولى من حصة الامتحان.
ومن خلال تتبع هذه الصفحات ومراقبة خطابها، فيبدو أن أصحابها ليسوا مراهقين يلهون أمام حواسيبهم، ويلعبون مع الوزير لعبة القط والفأر. بل أناس ذوو كفاءات وإمكانيات يعملون على توظيفها لتخريب الشواهد الوطنية وإفراغ البكالوريا من قيمتها، خدمة لأجندة غير معلومة…
فتتبع كرونولوجيا “التسريب” أو بعبارة أدق عمليات “تسهيل” والمساعدة على الغش، يبدي أن الصفحات لا تنشط إلا بعد انطلاق الامتحانات، وخصوصا بعد توصلها بصور المواضيع من داخل الأقسام. وهي على كل حال نقطة قوة تحسب للوزارة و لمركز التقويم والامتحانات، إذ لا يقع التسريب إلا بعد عمليات فتح الأظرفة… لكن المدهش فعلا ، وهو ما يعزز فرضية التنظيم، هو أننا لا نجد فوضى في الإجابات، باعتبار الصفحات مفتوحة للجميع داخل وخارج المغرب… بل تختار الأجوبة بعناية، وتنشر بانتظام، وتثبت بوضوح (…) وبذلك تبقى مراكز وقاعات الامتحان هي نقطة الانطلاق ونقطة الوصول، كما أنها هي التي يمكن ضبطها والسيطرة عليها. أما ما بين النقطتين فإن التعامل يكون مع أشباح منفلتة… ولذلك فالحد من فعالية هذه الصفحات التخريبية والمجهودات غير الوطنية يمر عبر خطوات وإجراءات محددة داخل حجرات الدرس وقاعات ومراكز الامتحانات، منها ما يطول الاشتغال عليه، ومنها ما هو دون ذلك…
الخطوة الأولى: “مدرسة بدون غش في جميع أطوار التعليم، وطيلة أيام السنة”
فتجريم الغش أخلاقيا وقانونيا يجب أن يكون ممارسة تربوية مواكبة للعملية التعلمية في كافة مساراتها بدءا من المراحل الأولى للتعليم، التي يتشرب فيها المتعلمون قيم الاعتماد على النفس، والشفافية… إذ يسجل الآباء والمراقبون بأسف كبير العمليات والخروقات اللاتربوية التي تشوب الامتحان الإشهادي لنهاية الطور الابتدائي (المستوى السادس). فمهما كانت المبررات والدوافع فلا يمكن قبول عرض “سلعة الغش” على متعلم في المراحل الأولى لتشكل قيمه ومواقفه ومفاهيمه.
كما تسجل حالات كثيرة من التساهل مع فعل الغش أثناء امتحانات المراقبة المستمرة داخل الأقسام على طول السنة الدراسية، وتعويد المتعلمين على تقديم شروحات شفوية مرافقة للفروض الكتابية، وتفاوت مستوى الصرامة أثناء الإنجاز بين الفاعلين التربويين…
فما يقع اليوم إنما يعكس مجموعة من الثغرات التي تشوب نظامنا التعليمي في كافة أطواره، وركاما من التساهلات على طول السنة، التي تجعل “تقريب الجواب من التلميذ” مكسبا وطنيا مشروعا… ومن العبث أن نحاول محاصرة النتائج، ونحن نبتسم ملء أفواهنا حين تتشكل الأسباب أمام أعيننا (…). وقد تابعنا كيف أن تلاميذ السنة الثالثة إعدادي صوروا مواضيع امتحاناتهم الجهوية في مختلف المواد، ومختلف الجهات منذ الدقائق الأولى لانطلاق الامتحانات، ووضعوها على صفحات “التسريبات” وهم يتوسلون الإجابات على “قارعة” الأنترنيت، و”أرصفة” الفايسبوك….
أما من يتحدثون على أن الغش “صنعة” مغربية في قطاعات ومجالات مختلفة، وأنه ليس في المدرسة إلا مظهرا، فإنهم لا يدركون أن “المدرسة” هي قلب المجتمع، والقضاء على الغش في المدرسة وتربية أبنائنا على قيم النزاهة والشفافية منذ نعومة أظافرهم، سيمنحنا مستقبلا بآمال مشرقة وكفاءات مشرفة، ووطنا بدون ثقوب سوداء تستنزف خيراته وتبدد أرصدته الرمزية في التصنيفات الدولية…
– الخطوة الثانية: التفعيل الحقيقي لمبدأ “تكافؤ الفرص بين الجميع”
فالحجة الأولى التي يرفعها القائمون على صفحات “التسريبات” وروادها هي عدم تكافؤ الفرص بين التعليم الخصوصي والعمومي. ورغم أنه يستحيل تحقيق “التشابه التام” بين القطاعين، حيث لن يبقى للقطاع الخاص مبرر للوجود… فإنه على الأقل يجب أن تراجع أنظمة التقويم الحالية، وأن تراقب مراحل تنفيذ البرامج والمقررات الدراسية.
فتتبع بيانات نقط تلاميذ التعليم الخصوصي، تظهر أنها تحمل الكثير من التناقض والتفاوت بين نقط الامتحان الوطني والجهوي ونقط المراقبة المستمرة. مما يستدعي من الوزارة إما إلغاءها تماما، أو على الأقل تتبع ومراقبة مدى استنادها إلى المعايير والمساطر التي أوضحتها المذكرات الوزارية في المجال.
ويرتبط بهذا ما جرت به العادة في الكثير من المؤسسات الخاصة، بإلغاء المواد غير المقررة في الامتحان الوطني، في تحد سافر للقوانين الجاري بها العمل. ولمبدأ تكافؤ الفرص. حيث يبقى تلاميذ التعليم العمومي مطالبين بهذه المواد حتى نهاية الدورة الثانية، بينما يركز تلاميذ التعليم الخصوصي كل جهودهم على مواد الامتحان الوطني فقط، و نقط المواد الأخرى “مضمونة”، وفي حدها الأقصى.
ثم تفعيل مبدأ “التكافؤ” داخل قطاع التعليم العمومي نفسه، ففي العالم القروي حيث تنخفض درجات المراقبة والتتبع، يتصاعد منسوب اللامسؤولية وعدم الانضباط، إلا من أخذ الله بيده، واتقى الله في أبناء هذا الوطن…
والأمر نفسه أثناء مراقبة سير الامتحانات، بتطبيق القانون ضد كل من يتواطأ في عملية الغش من التلاميذ كما الأطر الإدارية والتربوية. وإشراك الجميع في صياغة “ميثاق وطني لمحاربة الغش في الامتحانات والمباريات” يتضمن الحقوق والواجبات، كما يتضمن إجراءات الزجر وأنظمة التحفيز. فلا يعقل أن يمنع التلاميذ من الغش في امتحاناتهم، بينما يسمح به في امتحانات الكفاءة التربوية والمهنية وكأنه واقع مفروض لا محيد عنه (…) كما لا يمكن أن تشدد الحراسة في “مركز” أو “قاعة” ويطلق العنان للنقيل في مركز أو قاعة أخرى، بشرط أصبح مشهورا عند المتعلمين “نقلو ولكن بلا صداع”.
وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص في عمليات التصحيح،مما تحقق الكثير منه هذه السنة… لكن يبقى إجراء تدقيق وتفصيل دلائل التصحيح ذا أولوية لتقليص هوامش الاختلاف والتأويل بين المصححين.
– الخطوة الثالثة: ضبط المترشحين الأحرار، ومراجعة نظام الترشيح الحر
فقد أبانت التجارب بأن أقسام المترشحين الأحرار هي أكثر الأقسام انفلاتا وصعوبة. ويتحدث الأساتذة المكلفون بالمراقبة في هذه الأقسام عن صعوبات في ضبط هذه الفئة. كما أن بلاغات إعلامية تحدثت عن محاولات بعضهم لمغادرة قاعات الامتحان قبل انتهاء الوقت القانوني. بالإضافة إلى تصاعد نسب الغياب بشكل كبير مما يؤدي إلى تبذير موارد مادية وبشرية مهمة…. وبما أن هذه الفئة تقع خارج الحملات التحسيسية التي تقوم بها أطر الوزارة، وخارج حملات الدعم التربوي والنفسي التي تنظمها الكثير من المؤسسات الثانوية. فإن على الوزارة البحث عن صيغ مناسبة لإلزام المتقدمين للبكالوريا الحرة باحترام القوانين، وتجنب كل ما يعيق السير العادي للامتحانات، والالتزام بالحضور للامتحان الذي تقدموا إليه. كما يمكن دراسة إمكانية وضع امتحان خاص بالأحرار لتجنب كل أشكال التشويش والضغط على جميع الأطراف.
فرغم أن بكالوريا الأحرار مكسب وطني لا بد من الاحتفاظ به، فإن مراجعة أنظمتها وقوانينها صار أولوية لتحصين شهادة البكالوريا المغربية.
الخطوة الرابعة: تفــعيل “المقــاربة التـقـنية”
فلما كانت عملية إيقاف ومحاصرة هذه المجموعات على الفايسبوك أمرا متعذرا من الناحية التقنية، لأنه في الغالب أن “أصحاب الحسنات” كثر، وقد يكونون من داخل المغرب أو خارجه.. فعلى الأمد القريب لا بد من إعمال المقاربة التقنية عن طريق توظيف أجهزة للتشويش على استقبال الأنترنيت في مراكز الامتحانات. ويمكن أيضا مراقبة المراكز التي ترتفع فيها نسب الغش، بواسطة الكاميرات، كخطوة استباقية لكل أشكال التسيب التي قد تعرفها.

أيها السادة الأفاضل، إن تحصين المدرسة المغربية والشواهد التي تقدمها، ليس هما لوزارة واحدة فقط، بل هم مجتمعي يجب أن تنخرط فيه كل الكفاءات الوطنية وكل قطاعات المجتمع… وحين يتعلق الأمر بالمدرسة فلا مجال للتنابزات والصراعات لأن المدرسة هي المحطة الأولى لأي إقلاع حقيقي نحو المستقبل… وأي خلل ينصرف إلى المنظومة التربوية سيحصد الجميع نتائجه السلبية، وبأسرع مما تتصورون…..